البلاط ووقاره شيئا من العبث، والشعب العراقي على اختلاف منازعه وعقائده وأجناسه ناقد متمرد طموح لا يصبر على نقص، ولا يغفل عن خطأ. فقدر في نفسك كيف كان مصير الملك لو كان غير فيصل!
اضطلع الملك فيصل وحده بأعباء الملك والحكم والزعامة في هذه الحال المضطربة، فكفكف بحكمته من شرَّة الانتداب، وخفف بحنكته من عسف الوزارة، ولطف بحلمه من غضب الشعب، وصرَّف شؤون الدولة على قدر ما يسلم الرأي الحصيف من خبث الاستشارة وضعف الوزارة، ثم سهل حجابه لأمراء العشائر ورؤساء الطوائف وزعماء الأحزاب فاستل ما في صدورهم بالقول اللين والعتاب الهين والشخصية الجذابة، حتى كان الرجل منهم يدخل قصره وهو عليه، فلا يخرج منه الا وهو له! ثم نظر خارج العراق فرأى على حدوده دولا يتنزى في صدورها حقد الماضي وطمع الحاضر، فزار تركيا وفرنسا وإيران فأحال عداءها إلى صداقة وجفاءها إلى مودة! ثم اجتمع بملك الحجاز وأوفد إلى امام اليمن فأحكم أواخي المودة بينهما وبينه، ثم هداه تفكيره العملي المرن إلى أن يعالج الانتداب بالمصانعة والموادعة حتى انتهى به إلى نوع من الاستقلال يحفظ الكرامة ويعين على النهوض. دخل الملك فيصل العراق دخول الإمام الحسين! لا مال أمامه ولا جند خلفه! ولكن الحسين جرى على سياسة علي فهلك، وجرى فيصل على سياسة معاوية فملك! ثم اعتمد في تأثيل ملكه وإنهاض شعبه على الإخلاص العامل والجد النزيه، وتحامل في ذلك على دمه وعصبه وروحه حتى ذهب فيصل شهيد الواجب، كما ذهب الحسين شهيد الحق!!
كان الملك فيصل الأول ملكا من طراز خاص، ولعله كان أقرب إلى خلفاء الصدر الأول منه إلى ملوك اليوم! كان ناصع الظرف، جم التواضع، رحب الأناة، ظاهر الوداعة، زاهدا في أبهة الملك، عازفا عن مظاهر السلطان؛ فلا يخدج بتحية، ولا يمشي في حرس، ولا يتشدد في حجاب.
وكان من أجمل مظاهر ديمقراطيته الأصلية أن تراه غالبا في شارع الرشيد أو في طريق الصالحية يقود سيارته بيده، ويشق طريقه بنفسه، دون ربيئة من خلفه ولا طليعة بين يديه، فيسبقه أي سابق، ويزاحمه أي سائق!!
وقد تبكر ذات صباح إلى مدرستك أو ديوانك فتراه في ذرور الشمس قد طلع عليك بوجهه