يعتمد الباحثون في نبوة المتنبي على تلك الأخبار المتناقضة في أمر نبوته، فيذهبون فيها مذهبين متناقضين: فريق يجزم بوقوع هذه الدعوى منه، وفريق يجزم بأنها من اختراع أعدائه؛ وكل فريق يتعصب للأخبار التي تؤيد مذهبه، ويجزم بصحتها كل الجزم، ويطعن في صحة الأخبار التي لا توافق مذهبه، وتؤيد مذهب الفريق الآخر، وقد ضاع الحق في ذلك بين التعصب للمتنبي والتعصب عليه، ولم تنهض فيه حجة واضحة تقطع بالحق من ذينك المذهبين، وتقضي على هذا الخلاف الذي لم ينته إلى الآن.
ولا خلاف بين الفريقين في إطلاق لقب المتنبي على أبي الطيب، وإنما الخلاف في أنه أطلق عليه لادعائه النبوة في حداثته، أو لقوله:
أنا تِرب الندى وربّ القوافي ... وسِمام العدى وغيظ الحسُود
أنا في أمةٍ تداركها الل ... هـ غريب كصالح في ثمود
ما مُقامي بأرض نخْلة إلا ... كمقام المسيح بين اليهود
هذا هو ما حكاه أبو الفتح عثمان بن جني عن أبي الطيب نفسه؛ وأما الأول فحكاه أبو عبد الله معاذ بن إسماعيل اللاذقي قال: قدم أبو الطيب المتنبي اللاذقية في سنة نيف وعشرين وثلثمائة وهو لا عذار به، وله وفرة إلى شحمتي أذنيه فأكرمته وعظمته لما رأيت من فصاحته وحسن سمته، فلما تمكن الأنس بيني وبينه وخلوت معه في المنزل اغتناماً لمشاهدته، واقتباساً من أدبه، قلت: والله إنك لشاب خطير تصلح لمنادمة ملك كبير، فقال: ويحك أتدري ما تقول؟ أنا نبي مرسل، فظننت أنه يهزل، ثم تذكرت أني لم أسمع منه كلمة هزل قط منذ عرفته فقلت له ما تقول؟ فقال أنا نبي مرسل، فقلت له: إلى من مرسل؟ فقال إلى هذه الأمة الضالة المضلة. قلت تفعل ماذا؟ قال: أملأ الدنيا عدلاً كما ملئت جوراً. قلت بماذا؟ قال: بإدرار الأرزاق، والثواب العاجل لمن أطاع وأتى، وضرب الرقاب لمن عصى وأبى. فقلت له: إن هذا أمر عظيم أخاف عليك منه، وعذلته على ذلك، فقال بديهة:
أبا عبد الإله مُعَاذ إني ... خفيٌّ عنك في الهيجا مقامي