في ذات مساء اشتد فيه الصراع بين بواكر الربيع وأواخر الشتاء، ارتفع من بين ضجيج القاهرة ولغط النهار الراحل، طلقات ضعيفة من مدفع عتيق. . وتألقت في شرفات المآذن الشم مصابيح الكهرباء بغتة. . فعلم الناس بمقتضى التقاليد أن غداً يوم العيد. .!
راح قوم يقضون ليلهم بين وحشة القبور ورهبة الموت، في غير إدِّكار ولا اعتبار ولا خشية! وبات آخرون يتعهدون كباش الأضاحي بالعلف، ويشحذون لصباحها المدى والسواطير. . .!
وأصبحت القاهرة دامية البيوت، حامية المطابخ، شديدة الجلبة: وبيوت الله التي نزل فيها العيد من السماء، تنتظر المؤمنين للصلاة والدعاء، فلم يغشها إلا فئات من العمال والبوابين والخدم!.
أما السراة والأوساط، فقد خرجوا من هندام الأمس، واهتمام اليوم، يستقبلون العيد في القهوات والحانات، بين لعبة النرد الصاخبة، وأحاديث الدواوين المعادة! فإذا تلاقى في الطريق صديقان، أو تراءى في القهوة قريبان، تبادلا في فتور تحية العيد، ثم مضى كل منهما لشأنه!!
ذلك هو العيد أو ما يقاربه في مصر وفي سائر البلاد العربية.! فلولا مرح طافر يقوم بالأطفال في هذا اليوم لعطلة المدارس، وجدة الملابس، وسحر النقود، وفتنة اللعب لمرَّ كسائر الأيام حائل اللون تافه الطعم بادي الكآبة!
فليت شعري ماذا حاق بنا من الأحداث والغِيَر حتى غاضت ينابيع المسرة في القلوب، وماتت أحاسيس البهجة في النفوس، وتحللت أواصر المودة بين الناس، وآل أمر العيدين (وهما كل ما بقى في أيدينا من مظاهر الوحدة الدينية والعزة القومية) إلى هذه الصورة الطامسة والحال البائسة؟!
لا نستطيع أن نتهم حسرة الحزن على الماضي، وذلة الضعف في الحاضر، فإن أعياد اليهود وإن فقدت بذلك مظهرها الاجتماعي، لم تفقد روعة الدين في الكَنيس، ومتعة الأنس في البيت، وجمال الذكرى في الخاطر.
وأعياد إخواننا في الوطن والجنس والمجد والأسى من نصارى الشرق لا ينقصها الرواء والإخاء واللذة.