للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[٨ - القلب المسكين]

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

وأما هو فحدثني بهذا الحديث العجيب من لطائف إلهامه وفنه قال: انصرفت إلى داري وقد عز على أن يكون هذا منها وأن يكون هذا مني، وهي أن غابت أو حضرت فأنها لي كالشمس للدنيا، ولا تظلم الدنيا من ناحية إلا من أنها تضيء في ناحية، فظلمتها من عمل نورها. وكانت ليلتي فارغة من النوم فبت أتململ، وجعل القلب يدق في جنبي كأنه آلة في ساعة لا قلب إنسان؛ وكان في الدنيا من حولي صمت كصمت الذي سكت بعد خطبة طويلة، وفي أنا صمت آخر كصمت الذي سكت بعد سؤال لا جواب عليه؛ وكان الهواء راكداً كالسكران الذي انطرح من ثقلة السكر بعد أن هذى طويلاً وعربد؛ والوجود كله يبدو كالمختنق لان معنى الاختناق في قلبي وأفكاري. ونظرت نظرة في النجوم فإذا هي تتغور نجماً بعد نجم كأن معنى الرحيل انتشر في الأرض والسماء إذ رحلت الحبيبة، وكان كل وجه مضيء يقول لي كلمة: انتظر

فلما عسعس الليل رميت بنفسي فنمت والعقل يقظان، وصنعت الأحلام ما تصنع، فرأيتها هي في تلك الشفوف التي ظهرت فيها عروساً؛ وما اعجب كبرياء المرآة المحبوبة! إنها لتبدو لعيني محبها كالعارية وراء ستر رقيق يشف عنها كالضوء، ثم تدل بنفسها أن ترفع الستر، فان لم يتجرأ هو لم تتجرأ هي؛ وكأنها تقول له: قد رفعته بطريقتي فارفعه أنت بطريقتك. . .

وكانت مصورة في الحلم تصويراً أخراً فلا ينسكب من جسمها معنى الحسن الذي أتأمله وأعقله، ولكن معنى السكر الذي يترك المرء بلا عقل؛ ولم تكن غلائلها عليها كالثياب على المرأة، ولكنها ظهرت لي كاللون على الوردة الزاهية؛ تظهر فتنة وتتم فتنة

أيتها الأحلام ماذا تبدعين إلا مخلوقات الدم الإنساني، ماذا تبدعين؟

قلت: يا صديقي دع الآن هذه الفلسفة وخذ في قص ما رأيت. ثم ماذا بعد الوردة ولون الوردة؟

قال: انه القلب المسكين دائما، انه القلب المسكين. لقد ضحكت أي وقالت: هاأنذا قد جئت، وأقبلت ترائيني بوجهها، وتتغزل بعينيها، وتتنهد بصدرها، وألقت يدها في يدي فأحسست

<<  <  ج:
ص:  >  >>