لم يعد للشعر في العصر الحديث ما كان له في العصور القديمة من سيطرة وقوة وإيحاء، ولم يصبح - كما كان - مرآة صادقة تظهر فيها حياة الأمم، وتخلد فيها مآثرها ومثالبها، ولئن كنا نستطيع أن نستخرج من الشعر الجاهلي - مثلا - صورة صادقة لحياة العرب في باديتهم فترى فيها مضارب خيامهم، ومعامع حروبهم، وأسراب ظبائهم ونسائهم ونعمهم وشائهم تضطرب في صحرائهم إلى غير ذلك مما حفلت به حياتهم، واصطبغت به معيشتهم، لئن كان ذلك في مقدورنا فإننا لا نستطيع أن ندعي أن أمة من الأمم الحديثة كان شعرها (ديوان حياتها)، ولذلك أسباب كثيرة تختلف باختلاف الأمم.
ولا شك أن من الأسباب القوية في هذا الشأن قصور الشعراء وتقصيرهم، وإن كان ذلك لا يرضي بعض المدارس الحديثة التي ترى أن الشاعر لم يخلق ليكون حاكيا لأحوال المجتمع، وإنما خلق ليرسم للناس صورة نفسه، فالشاعر الذي يودع شعره الأحداث السياسية والاجتماعية ليس بشاعر، إذ أ، الشاعر لم يخلق ليكون واعظا أو مرشدا للجماعات، وإنما خلق - زعموا - للفن وحده، وليرسم نفسه بهذا الفن البديع، فيتحدث عن أفراحهم وآلامها، وعن عواطفها ورغباتها، وقد كان لهذا المذهب أثره القوي في ناشئة الشعراء، فرأينا هم لا يكادون يتعدون دائرة خواطرهم الضيقة، بل ذهبوا إلى ابعد من ذلك فزوروا على أنفسهم، فأخذوا ينوحون وهم يضحكون ويشببون تشبيبا عذريا وهم في اللذات غارقون، وهكذا أرادوا أن يصدقوا فكذبوا، وهربوا من تصوير حياة الجماعة فصورا أنفسهم مشوهة!
لهذا ولأسباب أخر فقد الشعر مكانته، ولم يستطع أن يكون سجلا لحياة الجماعة، نستطيع أن نقول هذا في الشعر المصري، ونستطيع أن نقوله في الشعر العراقي، وتستطيع أن تقوله في شعراء الشام والحجاز، ونستطيع أن نقوله في الشعر السوداني، وإن كان هروب الشعراء السودانيين من حياة المجتمع أوضح، وربما اعتذر الشعراء الذين عاشوا في أوائل هذا القرن عن تخلفهم يقول الشاعر.