يخطئ من يقيس تقدم أمة أو تأخرها بما يشاهد من حال السابقين منها أو المتخلفين عنها؛ فإن من سبق إنما سبق بإعجازه، ومن تخلف إنما تخلف بعجزه؛ والإعجاز والعجز من الشذوذ الذي لا يسبب حكماً ولا يبني قاعدة. إنما يصح القياس بحال الكتلة التي ظلت متماثلة في اللون والكثافة والحركة بعد أن انفصلت منها قطعة إلى الأمام، وانخزلت عنها قطع إلى الوراء؛ لأن هذه الكتلة تمثل القدر المشترك من الشعور والإدراك والوعي والقلق والطموح والاندفاع؛ فرأيها هو الرأي العام، وأمرها هو الدستور الحاكم، ووحيها (هو السياسة القومية، وغضبها هو الثورة الوطنية، ورضاها هو السلام الدائم. والحكم على الأمة العربية - لمن يحلو له أن يحكم - يجب أن يكون، بناء على هذا القياس أو الأساس، قائماً على حركات كتلتها العجيبة التي ما فتئت منذ مؤتمر فرساي تتقارب وتتضام وتتماسك وتتحد على الرغم من الأسباب المفككة والعوامل المهلكة التي ابتليت بها من سفه الأحزاب السياسية في الداخل، وطمع الدول الاستعمارية في الخارج.
كانت هذه الكتلة الممزقة فاقدة الوعي حين أراد محمد علي إحياء الإمبراطورية العربية؛ وكانت فاقدة الوعي حين ثار أحمد عرابي على العناصر الأجنبية؛ وكانت فاقدة الوعي حين دعا مصطفى كامل إلى الفكرة الوطنية؛ ولكن وعيها القومي أخذ يتنبه حين زلزلت الأرض قنابل الحرب العالمية الأولى، فثارت الجزيرة وسورية والعراق على استعباد الأتراك، وتمردت مصر على احتلال الإنجليز، واستجابت الأمة العربية جمعاء لدعاء الحرية هنا وهناك، وسارت وراء قادتها بخطى الواثق المطمئن، فأضلوها السبيل، وأوردها السراب؛ ولكنها استفادت من كلال السير ووعوثة الطريق وسعار الظمأ، بنصراً في الوعي، وقوة في الموازنة، وصدقاً في التمييز، وصحة في الحكم؛ فلم تكد الحرب العالمية الثانية تنطفئ حتى أمام زعمائها تلهمهم فيقولون، وتأمرهم فيفعلون، وتوجههم فيتجهون. ومتى عرفت الأمة نفسها، وأحست نقصها، وتبينت قصدها، أبت على ولاة أمرها أن يدلسوا عليها الرأي، ويموهوا لها الباطل، ويقنعوها بما دون الحق. وفيما يجري الآن في مصر وفي وغيرها من الحوادث، ويذيع في المجالس والصحف من الأحاديث، شواهد صادقة على