بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصر مروع الأمن مضطرب النظام تسوده الفوضى من جميع نواحيه: عصيبات جاهلية، ووأد للبنات، وارتكاب لأشنع المنكرات، سلب ونهب، وقتل وعدوان؛ تغير القبلية على الأخرى فتبدد شملها وتسلبها حرياتها ومالها وتعتدي على أعراضها فكان الحق للقوة الغاشمة والسيف المسلول. وبديهي ان يتبع هذه الفوضى انحلال في الأخلاق وإزهاق للنفوس وسلب للأموال وضياع للحريات. كل ذلك كان في جزيرة العرب. وما كانت الممالك المجاورة ذات المدنية والحضارة كالفرس والروم خيرا من بلاد العرب من هذه الناحية، بل كانت الحروب فيها قائمة يضطرم أوراها ويشتد لهيبها، وكان العالم يتردى في بؤر الفساد ويرقص على بركان ثائر ينذر بالحروب والويلات - لذلك اقتضت الحكمة الإلهية أن يقوم على إنقاص هاتين الإمبراطوريتينأمةأخرى فتية متوثبة متطلعة للنهوض، ولا ينقصها قوة الجنان ولا تأبه بخوض غمار الحروب للذود عن الإنسانية وأمنها. وقد ألفت التقشف واعتادت شظف العيش، وكانت هذه الشروط موفورة في أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم وتابعيه من أولئك العرب الذين سما الإسلام بنفوسهم، حتى جعل منهم أمة أخرى لا شاغل لها إلا إعلاء كلمة الله وإصلاح أمور المجتمع الإنساني.
ولقد أعد الله هذه الأمة للنهوض بالعالم وتوحيد كلمته فأرسل من بينها رسولا عرف بالاستقامة والأمانة وحسن السيرة وقوة الشخصية وشرف المحتد وكرم الأصل، وكان لسلوكه الشخصي وسياسته الحكيمة وتأييده بالمعجزات الباهرة ما جعل من أخيارهم القلوب الواعية والآذن الصاغية (يؤتى الحكمة من يشاء ومن أوتي خيرا كثيرا)(ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) فأوحى الله إليه بالقرآن الكريم فكان هو الدستور