كنت أشهد في بعض قرى الصعيد فتى ريفيا يقتاد حمارا أسود قميئاً قد علمه بعض الأضاحيك ولقبه (ظريفا). وكان يومئ إليه فيلتبط بالأرض في سكون، ثم يبدأ يعرض عليه العروض فيقول: تتزوج من جرجا؟ تتزوج من البلينا؟ تتزوج من سوهاج؟ تتزوج من النخيلة؟ تتزوج من أبو تيج؟ تتزوج من أسيوط؟. . . كل هذا والحمار يرفض في إباء، ويؤكد رفضه بهزات من رأسه حاسمة. فإذا عرض عليه الأمنية النفيسة وقال: تتزوج من مصر؟ - وثب من رقدته مرحا خفيفا وهو يهز رأسه علواً وسفلاً علامة القبول!
كنت أعجب بحركات هذا الحمار، لكن لا أعجب بفكرته - وهو صعيدي - من إيثاره بنات مصر على بنات موطنه الصعيد. . . ثم أقول: لا جرم إنه حمار. . .
وأخيرا تحقق لديّ صدق حكمي على عقلية هذا الحمار، إذ قرأت على قرد حاذق حديثه القاضي التنوخي في كتابه (نشوار المحاضرة) رواية عن ابن عباس الذي يحكى إنه (رأى في شارع الخلد قردا معلما يجتمع الناس عليه فيقول له القراد: تشتهي أن تكون بزازاً؟ فيقول: نعم، ويومئ برأسه، فيقول: تشتهي أن تكون عطاراً؟ فيقول: نعم - برأسه - فيعدد الصنائع عليه فيومئ برأسه، فيقول له في آخرها: تشتهي أن تكون وزيراً؟ فيومئ برأسه (لا)، ويصيح ويعدو بين يدي القراد فيضحك الناس
كلا الرجلين يمزح في فعله، ويحاول أن يتفكه ويفكه معه الناس - استدرارا لعطاياهم - باتخاذ أمثال هذه الألاعيب. ولكن للفكاهة المستحبة مظهر من الجد، ومرمى غامض من العبرة والموعظة بدونهما تكون عبثا لا طائل تحته
ونظرية هذا القرد صائبة - أعني نظرية صاحبه - إذا نحن تأملنا منصب الوزير على عهدهما، وما كان يتهدد الوزراء يوم ذاك من خلع وقتل وحبس واستصفاء، فما وجه نظرية حمارنا - أو حمّارنا - في الزواج؟!
الحق أن هذا الفتى الريفي وحماره يعبثان بقدر ما كان الشاطر البغدادي وقرده يجدان؛ وفرق ما بين الأولين والأخيرين هو فرق ما بين المسلمين اليوم وأسلافهم في القرون الخوالي. . . هو فرق ما بيني أنا - عربي القرن الرابع عشر - والتنوحي ناقل القصة