واتصلت زيارة أغوست كونت لأسرة كلوتيلد، واشتدت الصلة بينه وبينها متانة وقوة؛ وأخذت تزول من هذه الصلة بقايا هذه التكاليف الاجتماعية التي تواضع الناس عليها في حياتهم المألوفة، والتي لا يزيلها ولا يمحوها الا المودة الخالصة إذا بلغت أقصاها، أو الحب الصحيح إذا انتهى إلى غايته. وألحت الأسرة في التعريض بهذه الزيارات المتصلة، وبهذه الصلات التي كانت تتخلص شيئاً فشيئاً من التكلف والاحتشام. ونزعت الفتاة نفسها وقتا طويلا في أن تتحدث إلى الفيلسوف بهذه الريبة التي أخذت تثور حولهما في نفوس الأسرة؛ ولكنها انتهت إلى أن أنبأته بما عندها من ذلك فاستمع لها، ولم يحتج إلى تفكير وتقدير ليمتلئ قلبه سروراً وغبطة، وليأخذه شيء من الكبرياء غريب في ظاهر الأمر، ولكنه مألوف عند العشاق والمحبين. وماله لا يسر ولا يغتبط والحجب ترفع كل يوم بينه وبين من يهوى؛ وماله لا يأخذه الكبر ولا يملأه التيه وهو يثير الريبة في نفوس الأسرة، ويضطرهم إلى أن يشعروا بحبه للفتاة وبأن الفتاة لا تزدريه ولا تفرط في ذاته، ولا تنظر إليه في غير عناية ولا اكتراث. لعلها لا تحبه كما يحبها ولكن في قلبها عاطفة ما تعطفها عليه وتدفعها إليه. ومن يدري؟ لعل هذه العاطفة أن تنمو وتقوى وتخضع لما يخضع له الإنسان بملكاته وعواطفه من التطور، فتستحيل من المودة الخالصة إلى الحب العنيف. وإذا فما له لا يستأنف سعيه وإلحاحه؟ وما له لا يدور حول قلب الفتاة لعله يجد سبيلا لبلوغه والوصول إليه. وقد فعل. فهذا الحنان الذي كان قد كظمه في نفسه أو أسبغ عليه لوناً من الجد يجعله إلى الود أقرب منه إلى الحب، قد أخذ يتجرد من ثوبه المتكلف ويظهر على حقيقته وفي صورته الصحيحة، وقوته التي لا تبقي على شيء. وهذا التحفظ الذي كان اصطنعه في الحديث يزول شيئاً فشيئاً. وإذا هو صريح، وإذا هو يجدد إعلان الحب، ويكرر هذا الإعلان ويحيط الفتاة بشباك من الطلب والأمل والتضرع والاستعطاف والأغراء الذي يتجه إلى العقل حيناً وإلى الشعور حيناً آخر. وكيف تريد أن تفلت الفتاة من