أشكر قسم الخدمة العامة بالجامعة الأمريكية على أن هيأ لي فرصة للتحدث إليكم الليلة في موضوع جاف ودقيق؛ ولست أدري هل دقته منشأ جفافه، أم جفافه زاد في دقته وغرابته؛ ومهما يكن فالذي أستطيع أن أؤكده لكم أنكم لستم بصدد موضوع من تلك الموضوعات الطريفة المسلية التي تمر بالمستمع في شوق ورغبة وهدوء وسكون، وقد أعذر من أنذر! على أن لي في سعة صدركم وعظيم انتباهكم ما يشجعني على القول برغم ما يصادفني من صعوبات. وما فكرت في أن أخوض معكم غمار هذه الأحاديث إلا رغبة منى في أن أوجه النظر إلى شطر من الثقافة الإسلامية أهمله أهله وتغافل عنه ذووه. وأعني بهذا الشطر الدراسة العقلية والبحث النظري في الإسلام. للإسلام فلسفة انفردت بخصائصها ومميزاتها وأضحت ذات شخصية مستقلة. فليست مجرد الفلسفة الأرسطية مصوغة في عبارات عربية كما يزعم رينان، ولا فلسفة مدرسة الإسكندرية منسوبة فقط إلى بعض رجال الإسلام كما يدعي دهيم. كلا بل هي فلسفة ذات موضوع خاص ومشاكل معينة وطريقة البحث جديدة إلى حد كبير. هذه الفلسفة مجهولة ومهملة إلى درجة لم تصل إليها فيما أعتقد أية فلسفة أخرى. فرجالها لا يكادون يعرفون، وكتبهم ليست أعظم حظاً منهم؛ ولا يزال قدر منها مخطوطاً إلى اليوم دون أن يفكر أحد في طبعه ونشره. ولو لم يقيض الله لهذا التراث بعض المستشرقين لما عرف عنه شيء وتقي في طي الكتمان إلى الأبد. وما أجدرنا أن نقوم نحن على إحياء مجدنا والإشادة بذكر رجالنا كي يتصل حاضرنا بماضينا ونؤسس نهضتنا على أسس متينة من القديم الحي والجديد النافع
قلت أيها السادة إن موضوعنا دقيق، وعنوانه كاف للدلالة على ما فيه من أمور شائكة ومشاكل عويصة. فان الأبحاث الدينية في جملتها مثار اتهامات وتأويلات وشبه لا حصر لها. وقد ساد بلدنا في العشرين سنة الأخيرة روح اتهام خبيثة ترمي بالإلحاد والزندقة والتمرد والكفر كل من حاول تفسير ظاهرة من الظواهر الدينية تفسيراً تاريخياً أو عقلياً.