لذلك تحاشى كثير من الباحثين هذا الميدان وتجنبوه اتقاء لما فيه من شرر متطاير وعراك ونضال. غير أني أشعر بنسمة من نسمات التسامح الإسلامي القديم تهب علينا من جديد، وألمح في صفوف قادة الرأي والمفكرين اتجاها نحو الحرية وسعة الصدر وطلاقة التفكير. ولا أدل على هذا من خمود تلك النعرة القديمة، نعرة الإباحيين والمستمسكين واللادينيين والدينيين. ويغلب على ظني أنه لو كان تقدم الزمن عشر سنين بكتاب ككتاب (حياة محمد) مثلاً للدكتور هيكل لعد في صف المؤلفات المحاربة المطرودة. أما اليوم فانه مقروء ومرغوب فيه بشكل يدعو إلى الإعجاب والتقدير. وليس هناك شك في أن لفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي يداً في هذه النزعة الصالحة والتسامح الجديد. وإذا كانت النفوس اليوم أكثر استعداداً لتفهم مسائل الدين في جو حر طليق فأني لا أرى غضاضة في أن أتحدث عن بعضها. على أني لست في هذا الحديث إلا رسول الأمين والناقل الصادق لما قال به فلاسفتكم الأقدمون. فمهمتي أن أنقل إليكم آراء كبار فلاسفة الإسلام، وأردد بينكم أصواتاً تقادم بها العهد، وأبعث من تحت الرغام أشباحاً طال رقادها، وأبين لكم كيف حاول الفارابي وابن سينا وابن رشد التوفيق بين الفلسفة والدين
الدين وحي الله، ولغة السماء وغذاء القلوب، ومصدر الأوامر والنواهي. فكيف نوفق بينه وبين الفلسفة التي هي صنع البشر ولغة الأرض، ومجال الأخذ والرد والبحث والتعليل؟ كيف نوفق بين الحقيقة الدينية والحقيقة الفلسفية، والأولى عمادها الإلهام، والثانية أساسها البرهان؟ كيف نوفق بين السمعيات والعقليات، بين المسلمات واليقينيات؟ كيف نوفق بين أفكار العامة المبنية على البساطة والسهولة، وآراء الخاصة الناتجة عن التفكير الزائد والتأمل العميق؟ مهمة شاقة قطعاً ومحاولة يعز أن تكلل بالنجاح. ولكنها ضرورية لقوم عاشوا في العالم الإسلامي واعتنقوا الإسلام، وكانت دراستهم بل حياتهم كلها خاضعة للجو المحيط بهم، ومتأثرة بمختلف العوامل والظروف التي استولت على عصرهم. فلم ير الفلاسفة المسلمون بداً من محاولة التوفيق بين معتقداتهم وأبحاثهم. وهذه المحاولة هي حجر الزاوية في فلسفتهم وأخص خصائصها، وبها تتميز من الفلسفة الأرسطية وتبدو في ثوبها الفذ المستقل. ففي كل خطوة من خطاهم، وفي كل بحث من أبحاثهم، صوب هؤلاء الفلاسفة نحو هذا الغرض واتجهوا نحو هذه الغاية. وكان لمجهودهم أثر يذكر في انتشار