كان الحاكم بأمر الله صبيا في نحو السادسة عشرة حينما بدأ يضطلع بمهام الدولة على هذا النحو؛ بيد أن هذا الفتى القوي النفس، كان حاكما حقيقيا يقبض على السلطة بيديه القويتين؛ ويشرف بنفسه على مصاير هذه الدولة العظيمة، ويبدي في تدبير شئونها مدهشا، فيباشر الأمور في معظم الأحيان بنفسه، ويتولى النظر والتدبير مع وزرائه؛ وهكذا كان الأمير اليافع يؤثر العمل المضني على مجالي اللهو واللعب التي يغمر تيارها من كان في سنه، وفي مركزه وظروفه؛ وقد لزم الحاكم هذا النشاط المضني طوال حياته. وكان الحاكم ذا بنية قوية متينة؛ وكان منذ حداثته يتمتع بمظهر الجبابرة: مبسوط الجسم، مهيب الطلعة، له عينان كبيرتان سوداوان تمازجهما زرقة، ونظرات حادة مروعة كنظرات الأسد لا يستطيع الإنسان صبرا عليها؛ وله صوت قوي مرعب يحمل الروع إلى سامعيه؛ وقد كان في الواقع سليل نسل من الجبابرة الصحراويين الأقوياء، الذين يذهبون في زهرة العمر والقوة؛ وكان أبوه العزيز بالأخص عظيم القامة عريض المنكبين قوي التكوين، فورث عنه ولده هذه الخواص الطبيعية البديعة، ولم يبددها في شهوات النفس التي ينغمس فيها أبناء القصور
وهنا يبدأ عصر الحاكم بأمر الله حقا، وهو أغرب عصر في تاريخ مصر الإسلامية، وربما كان أغرب عصر في تاريخ الإسلام كله؛ عصر يمازجه الخفاء والروع، وتطبعه ألوان من الإغراق والتناقض مدهشة مثيرة معا؛ ولكن هذه الألوان الخفية المغرقة، وهذه النواحي المتباينة هي التي تسبغ على العصر أهميته وطرافته، وهي التي تحيط شخصية الحاكم بحجب كثيفة من الظلمات يعب اختراقها. ويحسن قبل أن نعرض إلى درس هذه الشخصية العجيبة وقبل أن نحاول استجلاء غوامضها، واستقراء حقيقتها، أن نستعرض أولا أعمال الحاكم وتصرفاته، وحوادث العصر وظروفه؛ ثم نحاول على ضوئها أن نتفهم روح