العصر، ونفسية تلك الشخصية الفريدة التي أفاضت عليه من خفائها وروعتها، وملأته بنشاطها ونزعاتها وأهوائها، وتبوأت فيه المقام الأسمى
- ٥ -
تقدم الرواية الإسلامية إلينا الحاكم في صور مروعة مثيرة؛ فتقدمه إلينا أولا في صورة جبار منتقم، وسفاك لا يخبو ظمؤه إلى الدماء؛ ثم تقدمه إلينا في صورة طاغية مضطرم الأهواء والنزعات، متناقض الرأي والتصرفات، لا تكاد تلمس لأعماله باعثا أو حكمة؛ شرسا جموحان ميالا إلى الشر، خؤونا وافر الغدر، لا يستقر على ثقة أو صداقة؛ وتقدمه إلينا على العموم في ثوب شخصية بغيضة خطرة، فاقدة الرشاد والتعقل، يغلب عليها الجانب الأسود، ولكنها مع ذلك لا تنكر عليه بعض نواحي الخير والخلال الحسنة، فتصفه لنا بالجود والتقشف والزهد في كثير من متاع الحياة الدنيا
(كانت خلافته متضادة بين شجاعة وإقدام، وجبن وإحجام وانتقام من العلماء، وميل إلى الصلاح وقتل الصلحاء؛ وكان الغالب عليه الصلاح، وربما بخل بما لم يبخل به أحد قط). (وكان جوادا، سمحا، خبيثا ماكرا، رديء الاعتقاد، سفاكا للدماء، قتل عددا كبيرا من كبراء دولته صبرا؛ وكان عجيب السيرة يخترع كل وقت أمورا وأحكاما يحمل الرعية عليها). (وكان حاله مضطربا في الجور والعدل، والإخافة والأمن، والنسك والبداعة). في هذه الصور وأمثالها تقدم الرواية الإسلامية إلينا الحاكم؛ ولا ريب أن في حياة الحاكم وفي أعماله وتصرفاته ما يبرر كثيرا من هذه الأوصاف المثيرة؛ غير أنها ليست كل شيء في هذه الحياة العجيبة الغامضة؛ ومن الخطأ أن نقف عندها في تصوير الحاكم والحكم عليه، ومن الواجب أن نتقصى في حياة الحاكم جوانب أخرى، وأن نحاول تفهم شخصيته ونفسيته على أضواء أخرى
افتتح الحاكم عهد حكمه بقتل برجوان وصيه ومدبر دولته؛ وكان للجريمة باعث سياسي قوي؛ فلم تك يومئذ دليلا على حبه للسفك أو ظمئه إلى الدم، غير أن الحاكم ما لبث أن أتبع ضربته بضربة دموية أخرى هي مقتل ابن عمار زعيم كتامة وأمين الدولة السابق؛ وكان الحاكم قد حماه من برجوان وأطلق له رسومه وجراياته، وأذن له بالركوب إلى القصر؛ ففي ذات مساء، حين انصرافه من القصرن انقض عليه جماعة من الغلمان الترك كانت قد