نظم أفلاطون الشعر قبل أن يعرف الفلسفة وقبل أن يتصل بسقراط، وله مسرحيات شعرية ولكنها ضاعت كلها ولم يصل إلينا شيء منها. . . وليست تهمنا هنا هذه المسرحيات في شيء، ولكن الذي يجدر بنا أن نعرفه أنه كان شاعرا قبل أن يكون فيلسوفا. . . ثم تعلم الفلسفة على يدي أقرا طيلوس العالم الطبيعي القديم الذي كان يعتقد بالتغير المستمر للأشياء، ثم عرف سقراط واعجب به، ولم يلبث أن صار من تلاميذه المقربين.
وهجر أفلاطون الشعر لسببين: أولهما تحوله تحولا كليا إلى الفلسفة التي بهره بها أستاذه الكبير سقراط. وثانيهما أن سقراط كان لا يرضى عن الشعراء لاعتقاده أنهم يزيفون الحقيقة ويقلبون الحق باطلا والباطل حقا. ولكن الذي لا ريب فيه أن أفلاطون وإن كان قد هجر الشعر إلى غير رجعة، إلا أن تأثره الشعري القديم كان عاملا كبيرا من العوامل التي أثرت في فلسفته تأثيراً ملحوظا، فجاءت ممزوجة ببعض الخيال، ويتجلى ذلك في (فيدون) عند استعماله ألفاظا شعرية في حديثه من أمثال: يلوح لي أو يبدو لي أو إن ما أراه. . . تلك التي دعت الكثيرين إلى الشك في نظرية الخلود التي احتوتها هذه المحاورة المعروفة، حتى قيل إن هذه النظرية محض اختلاق، وإنها خيال شاعر أكثر منها فلسفة حكيم.
وأفلاطون يؤمن بأن التأثير الشعري في النفس سابق للتأثير العقلي. فنحن حين ننظر في الوجود وفي الأشياء المحيطة بنا أو عندما نسمع رأياً من الآراء لا نعتبر في حالة قبول تام مباشر لأننا لسنا كالإناء يصب منه الماء، ولكن لنا احساساتنا وعواطفنا التي نسبر بها غور الأشياء أولا قبل أن يستقبلها العقل؛ فالعين تنفعل إذا وقعت عليها الأضواء والألوان، وهي تضطرب بمشاعرها واحساساتها. ثم يتدرج ذلك إلى الشعور العقلي والإحساس الذهني، فتدرك العين ماهية هذا الشيء الذي يسقط عليها، ويستطيع أن ينفرجا تدريجيا.
ومنهجه في الجدل دليل آخر على تفكيره الفلسفي الذي يخالطه الخيال الشعري المتغلغل في نفسه منذ صباه. ومنهجه هذا يتمثل في دورين: جدل صاعد وفيه يصعد أفلاطون من المحسوسات إلى المعقولات، كأن يفكر مثلا في وجود الأشياء الطبيعية حتى ينتهي إلى الله الذي هو كائن معقول غير محسوس، ثم جدل نازل وفيه يهبط إلى الدرجات من عالم