كنا ستة في أحد مجالس القطار السريع الصاعد إلى القاهرة. وكانت غريبةُ الغرائب أن يجتمع في هذا المجلس الطائر القلق ثلاثة ينتسبون إلى ثلاثة أحزاب سياسية، واثنان ينتمي كل منهما إلى فرقة دينية؛ وكنت أنا وحدي المستقل فيما بيني وبين الله والناس. وكان مما ليس بُد منه أن يترامى بهم الحديث إلى ذكر ما يشغل الخواطر من شؤون الدين والسياسة والحرب؛ فكان لكل منهم هوى لا يتابعه هوى، ورأي لا يشايعه رأي، حتى انقلب الحديث اللطيف جدلاً صخاباً لا حيلة فيه إلا للإشارة العنيفة والحنجرة الصُّلبة
حينئذ ابتلعت لساني ودخلت في نفسي وتركت هذه الأفواه يقذف بعضها في وجه بعض؛ ثم أخذت أفكر في هذه الصدَعات التي مزقت الكلمة وفرقت الدين، وجعلت بعضنا يبني وبعضنا يهدم، وأحدنا يسوق والآخر يعوق، فلم أجد لها مصدراً تشتق منه إلا العصبية!
تصورت في هذا المجتمع الصغير، صورة ذلك المجتمع الكبير، فعجبت كيف يتسنى في هذا الجمع الشتيت أن يتفاهم لسان ولسان، ويتآلف قلب وقلب، وتتعاون يد ويد، حتى يجوز أن تنتج من اتحاده قوة، وأن تنشأ من آحاده أمة!
الفرد في نفسه هو كل الناس، وشيئه في عينه هو كل شيء، ورأيه في عقله هو كل رأي؛ وذلك داء موروث من أدواء العصبية التي أفسدت كيان العرب وأوهنت بناء الإسلام بما يلازمها من حب الاستئثار وشهوة الرياسة
لم تمتْ العصبية من حياة العرب إلا فترة موقوتة بحياة الرسول. فلما استعز الله برسوله انبعثت في (السقيفة) بين المهاجرين والأنصار تقول: منا أمير ومنكم أمير. ثم سلطها الشيطان على الخلافة فانقسم العرب إلى هاشمية وأموية، ثم إلى قيسية ويمنية، ثم إلى علوية وعباسية، ثم إلى عربية وشعوبية. وأغراها بالدين فانشعب المسلمون إلى اثنتين وسبعين فرقة، تتقاطع بالظلال، وتتعادى في الباطل، وتزعم كل فرقة أنها هي وحدها الناجية! ولو كان تحزب العرب وتشعب المسلمين لمبادئ تصلحُ الدنيا وتعز الدين، لكان ذلك أخلق بمن جعلهم الله أمة وسطاً، يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويسارعون في الخيرات؛ ولكنهم اختلفوا تعصباً للنفس أو الجنس أو الرأي، وتوسلاً لبلوغ الحكم أو خضوع الخصم أو فتون العامة
وحب الرياسة وشهوة الحكم هما شر أدواء العصبية وبالاً وأشدها استفحالاً في الشرق القديم