على حدود الصحراء صوامع وبَيع، وكنائس وأديار؛ فيها قساوسة ورهبان نذروا أنفسهم لله أو نصبوا حبائلهم للمال؛ منهم برٌّ وفاجر، وناسك وداعر؛ وحواريٌّ من بقية السلف المؤمنين خاشع في محرابه، عاكفٌ على أسفاره، يترقب مَشرق الصبح بنفس راضية وقلب عامر؛ وآخرُ شيطانٌ في مسوح راهب، قد استمرأ المرعى في ظل البطالة، واستوطأ المقام في كنف الراحة، واستلذّ الحياة في الدَّير بين خمرٍ عتيق وقدٍّ رشيق وعودٍ وندامى!
وعلى ساحل البحر قلاع وحصون، وصياص ومعاقل، وجند من جند الروم قد رابطتْ على أهبة واستكملت السلاح والعدة!
وبين الصحراء والبحر من بلاد الشام يعيش شعب مرزوء، سلبه غزاةُ الروم وطنَه ومالَه، وسلبه الرهبان والقساوسة الدينَ والخلقَ وحرية الفكر والضمير!
وكانت قوافل التجار لا تنقطع بين الحجاز والشام
وكان يوماً قائظاً حين وفدت على الشام قافلة من التجار العرب، فأناخت جمالها على حدود الصحراء في ظل جدار قائم، تستجمّ لما بقي من الرحلة، وتنفض عن كواهلها غبار السفر الطويل في صحراء ليس فيها ظلٌّ ولا مأوى! وكان بينهم عمر!
فتًى آدَمُ طَوَال أصلعُ أقنى الأنف قويُّ الساعد بعيدُ ما بين المنكبين؛ في عينيه بريق ينبئ عن عزم وفتوة، وله نظرةُ الآمِر المطاع بين رفاقه وإن لم يبلغ العشرين بعدُ، وفيهم الكهول والأشياخ!
وبلغت القافلة حظها من الراحة فنهضت تستأنف المسير، فما كادت تمضي في طريقها خطوات حتى اعترضها واحد من الرهبان!
ووقف الراهب يتفرس في وجوه القوم برهة قبل أن يخطو إلى عمر فيضع يده على كاهله يختاره لما يريد من أمر!
وأيقن الركب أن لا قدرة لهم على عصيان الراهب فيما يريد، فخلفوا الفتى بين يديه ومضوا على وجوههم. . .