للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[طرائف من العصر المملوكي:]

التورية

للأستاذ محمود رزق سليم

التورية ضرب من البديع، والبديع - بلا ريب - فن جميل من فنون القول. سواء اختلفت النظرات إليه أم ائتلفت. إذ الفن في جوهره مظهر الفنان ومستجاب وحيه ومرتاض عاطفته به يصور وجدانه ويرسم فكرته، ابتغاء التأثير في سامعه وهو في هذا يجري وفق ذوقه ويسير قيد مزاجه، فإذا نهج على قواعد أخرى فإنما هي قواعد ارتضاها هذا الذوق واطمأن إليها هذا المزاج. فلا عليه إلا أن يصور ويرسم. فإن بلغ فيه من سامعيه ومعاصريه حد الإعجاب، فذلك عهد به وأمله فيه ورجاءه منه. وإلا فقد بذل ما استطاع، وقدم ما قدر عليه. وهو بين هذا وذاك فنان لا يغض من فنه نقدنا قد ولا إزراء مزر.

ولقد كان فن البديع أغلى فنون الحديث ومسالك الأسلوب عند أدباء العصر المملوكي وشعرائه. ملك على القوم أحلامهم وذلل أقلامهم فلا تجري إلا بين أرسانه، ولا تجول إلا وسط ميدانه، فوردوا موارده وعنها صدروا. ومدوا موائده وإليها ابتكروا. وكانوا بذلك أدنى أدباء عصر إلى تمثيل أهله، وأقرب شعراء حقبة إلى تصوير معاصريها.

نقول ذلك، لا على المبالغة، بل على سبيل الحق والصدق، ذلك أن الشعب المصري طبع من عهد بعيد على أن يسلك في حديثه مسالك البديع ترفيها للخطاب، وتجميلا للألفاظ، وتجميعا البديهة. فهو يجنس ويوري ويطابق ويقتبس ويضمن، ولا يني يبعث في خلال ذلك النكتة إثر النكتة والفكاهة غب الفكاهة، فيها دلالات عدة واتجاهات شئ ينم عنها اللفظ بمنطوقة مرة وبمفهومة مرة وبملابساته مرة، وهكذا.

لا نحاول هنا أن ندرس مبعث هذه الروح فيه، ولا أن تتبع أسبابها. ولا نحاول أن نرجعها إلى عواملها الطبيعية من ذكاء، أو طيب عيش أو طيب مناخ، أو إلى عواملها الاجتماعية من كبت عاطفة أو مقاساة حرمان أو كمون التياع. أو من خب في لذة، أو تطرف في ترف، أو غلو في سرف. أو غير ذلك مما يتطلب له المرء مخرجا في القول فلا يجد إلا هذه الضروب البديعة، ففيها له المتنفس والمرح. يجمع في أحدها العديد من المعاني ثم يترك السامع يقلبها بين يديه ويختار من بينها ما يلذ له ويروقه، فهو بذلك، يحمله على

<<  <  ج:
ص:  >  >>