للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

التفكير معه، ويدفعه إلى مشاركته ويسرى بخياله إلى شئ التصورات، ويتنقل به بين مختلف المعاني، ويكفيه بذلك فنا.

سرت هذه الروح في الشعب خلال حديثه حتى كانت له سمتا وشارة، وعرفت عنه منذ أمد، ونمت نمو عجيبا في العصر المملوكي. ولعل حياة الزخرف والدهان، التي كان يفيض بها العصر، كان لمها أثرها في هذه النمو العجيب، الذي نضح على أدباء العصر وشعرائه فكانوا - كما ذكرنا - أدنى إلى تمثيله وتصويره.

واعتقادي أننا - معشر المصريين - لا نزال حتى اليوم ندرج في هذه المدارج، ونطرق تلك السبل، برغم فراهة كتابنا وحدق شعرائنا وحرية أدبائنا، وإزاحتهم ربقة البديع عن أعناقهم وتغلغلهم وراء المعاني والأفكار، وسوقهم خلف الدقائق، وأخذهم من الفلسفة وإمعان النظر بنصيب، ظهرت عوارضه على إنتاجهم وأساليبهم ولكن أعتقد أنهم - رغم حسناتهم تلك - لا يمثلون بأساليبهم العصر الذي فيه يعيشون. ومن كان في ريب من هذا، فليسر في طرقات القاهرة. وليعر السمع إلى نكات العامة ومحاورات الباعة ومحادثات المارة. فليلج الأسواق الجامعة والمنتدبات الحافلة وما شاكلها. فليصت إلى أساليب الناس في الحديث، وإلى مدى امتلائها بالتوريات اللطيفة والتضمينات الطريفة والتجنيسات والمطابقات والتلميحات وغيرها من محسنات البديع، لا تكاد تخلو منها عبارة، أو تفرغ منها إشارة. والجمهور في ذلك يصدر عن طبع وفطرة قويمة. فهو يعكس في أسلوبه تصوراته الباطنة وانفعالاته الخفية الكامنة - فإلى أي مدى صار أدباءه المعاصرين مرآة له في مسالك أسلوبه ومناهج حديثه؟

ليست عند ريبة في أن أدباء العصر المملوكي أدنى إلى تمثيل عصرهم أسلوبا وتصويرا - كما ذكرت - وإذا كان الشعب في مجموعة ذافن في مسالك القول فهؤلاء كانوا ألسنته المتكاملة وعواطفه المترجمة. فهم بدورهم فنانون صادقون ومصورون ماهرون.

وصحيح أن هناك من النقاد الحديثين من وضع لنقده مقياسا يعني فيه بالبحث عن المعاني المبتكرة والتصورات الجديدة والأفكار المفيدة. كأنه يريد من الشعر ألا يكون إلا فلسفة وإلا حكمة وإلا مثلا، وإلا دستورا صامتا من دساتير الحياة. وأن يكون كذلك في كل عصر من العصور، وبهذا المقياس يزيف أدب العصر المملوكي ويزيف شعره، حتى ليتساءل عن

<<  <  ج:
ص:  >  >>