للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أدبائه وشعرائه ويقول أين كانوا يعيشون؟

والحق أن جلال الأدب في أسلوبه، وجماله في طريفة أدائه وأن صدقه في أن يعبر عن عاطفة الأديب وشعوره، وأن يحسن في تصويره. ولا ريب أن ضروبا كثيرة من البديع تعين الأديب على ما هو بصدده من فن التعبير والتصوير، ومن أبرزها التورية والتضمين والجناس والطباق. وهذه كانت من أهم دعائم الأسلوب في العصر المملوكي.

أنا لا أدافع عن البديع ولا أحدث عن مذهبي فيه. وإنما أحببت له العدل، وأردت له الإنصاف. فقد كان مزاج الأدب وقوام الأسلوب في عصر من العصور المصرية. ولم يكن ذلك غريبا منه حينذاك، بل الغريب ألا يكون. وكيف كان إنتاجه فهو قمين بإعادة النظر فيه من مؤرخي الأدب بيننا. أحب ألا يتأبوا على البحث فيه، وألا يمتروا في حصافته قبل أن يبدءوا ببحثه فليعيدوا فيه النظر بعد إحسان الظن به. ويقيني أنهم سينصفونه وسيجدون فيه شيئاً جديداً مفيدا ممتعاً.

والبديع بعد هذا كله، أو قبل هذا كله، فمن - بلا ريب - جميل، كما أشرنا، وقد استطاع أدباؤه أن يبرزوا بصورة عملية واضحة ما في هذه اللغة الكريمة من مزايا ولطائف وضروب جمال في تكوين ألفاظها وتناسق كلماتها. وأبانوا كيف أقدرهم هذا التكون والتناسق على التلاعب بالأسلوب والإبداع في الحديث، فأظهروا ما خفي في هذه الألفاظ من أسرار، وأشعروا الناس بجمال الترادف والاشتراك والتضاء فيها، وجلوا اللغة في ثوبها المرن المطاط الذي كثيرا ما يتسع للمعاني المتنافرة التي تند عن الذهن حينا كيفية اجتماعها وطريقة تآخيها.

وكانت التورية أحب أنواع البديع عند أدباء العصر المملوكي وأجل ما برعوا فيه منها. وأفضل ما أبدعوا فيه المعاني، وأجمل ما أحسنوا فيه التصوير، لم يشذ منهم عن هذا النهج شاذ. وصحيح أن الصلاح الصفدي - كما بينا في مقال النقد الأدبي - أعزم بالجناس وجن به دون أدباء عصره، ولكنه إلا جانب هذا كان من شعراء التورية. قال ابن حجة الحموي:

(هذا النوع - أعني التورية - ما تنبه لمحاسنه إلا من تأخر من حذاق الشعراء وأعيان الكتاب. ولعمري إنهم بذلوا الطاقة في حسن سلوك الأدب إلى أن دخلوا إليه من باب التورية فإن التورية من أغلى فنون الأدب وأعلاها رتبة وسحرها ينفث في القلوب، ويفتح

<<  <  ج:
ص:  >  >>