(قصة مقتبسة عن تمثل آراء هؤلاء الأوربيين الذين يعيشون بيننا، ويأكلون خبزنا ثم يجزوننا عن الكرم لؤماً وعن المعروف نكراناً)
- الشرق، آه على الشرق!
همست الفتاة بهذه الكلمات، وقد رأت رودلف فالنتينو في رواية الشيخ.
وكان بير ازناي المدرس في تجهيز فالاندر قد طوّحت به الحاجة مرّة إلى مصر فكان معلماً في المدرسة العلمانية الفرنسية في (النزهة؟) ولبث فيها عشر سنين. ثم عاد إلى فرنسا منذ عشرة أشهر، وليس في جيبه شروى نقير، ولم يربح إلا حكايات وتجارب حملها معه من الشرق، فلما سمع مقالة الفتاة اغتنم الفرصة فقال:
- الشرق يا سيدتي؟ هل تحبين أن أقصّ عليك حادثة وقعت لي فيه، إنها مأساة هازلة عن الصداقة العربية. كان في مدرستي الفرنسية عشرون معلماً أوربياً ومعلم واحد عربي، عربي قحّ، ذو وجه أسمر مستطيل، يلبس القفطان والجبة الواسعة، ويبدلهما كل يوم بلون جديد. وهو مدرس للغة القرآن - الإجبارية في مصر - ومعرّض دوماً لاحتقار الأساتذة الأوربيين الذين يرون أنفسهم أرفع منه، فلا يتنزلون لمصاحبته.
أما أنا فكنت أحييه التحية المعتادة لا أبالي بسخط زملائي ودهشتهم، ولا بدهشته هو المسكين الذي ما كان يجرؤ على رد تحيتي إلا بابتسامة عريضة، ونظرات ملؤها العطف والاحترام، ولا تمتد صحبتنا إلى أكثر من هذا، لأنه لا يعرف كلمة من الفرنسية، ولأنني أجهل العربية إلا المائة كلمة التي لابد منها للسير في الشارع مثل عندك هنا عربجي اسمع فين شارع فؤاد.
ثم شاء القدر أن تلتقي مرّة في شارع فؤاد صباح يوم من ديسمبر حار ملتهب كأنه الظهيرة من أغسطس في فرنسا، وكان معه ابن عم له أقل عروبة منه، له إلمام بالإنكليزية، إلا أننا لم نكن نتفاهم إلا بصعوبة، وكان علينا أن نفترق، ولكن رغبتي في تعرف الحياة الشرقية وضجري من الوحدة أبقياني معهما. والفضل في بقائي لابن عمه هذا. . وللغة الإنكليزية (وأي إنكليزية؟.) ولم تكن إلا أيام حتى كنا أصدقاء.