كان طيب القلب، بسيطاً محبباً، ولكن فيه شيئاً من العنجهية والجفاء، وكنا نذهب كل خميس وكل أحد إلى النزهة جميعاً: أنا وهو وابن عمه، فنزور معاهد النزهة ومتاحفها في عربة أو سيراً على الأقدام.
وكان ابن العم كثيراً ما يتخلف عن الموعد، هرباً من مهمته الشاقة في الترجمة بيننا، فنبقى وحيدين، وتصوري موقفنا إذن: نسير جنباً إلى جنب ونحن ساكتان، نتبادل النظرات في ابتسامة ساخرة حزينة! ونسلم على المارة، وكنت قد تعلمت التحية العربية، وهي الإشارة باليد إلى الجبهة والشفة والصدر، رمزاً إلى أن الصداقة تشغل العقل بالتفكير، واللسان بالنطق، والقلب بالعاطفة، وكان صاحبي يتعلم بالفرنسية، ولكنه كان يحفظ مقطعاً واحداً في كل ساعة بعد أن أردده عليه مرات ويعيده علي محرفاً، فأشكره بابتسامة.
وكنا إذا بلغنا مسجداً ودخل هو وقفت أنا على الباب أستشعر الزهو بأنني رومي لا كالأورام، وأنني صديق الشيخ، وأنني تشرفت بالوقوف في عتبة قبور الصالحين.
وكان مساء السبت، وكنت في المدرسة، فدنا مني أحد الطلاب وأعطاني رسالة من الشيخ، مكتوبة بالفرنسية باللغة التي يحسنها طالب صغير، ففتحتها فإذا فيها:
(يا صديقي الغربي العالم الفاضل، تفضل بالمجيء غداً إلى داري الحقيرة، لنتناول الغداء معاً، واعلم أن منزلي هو منزلك. . .)
منزله منزلي! ولكن من الظهر إلى الساعة الرابعة، وطعامه طعامي، وكنت وا أسفاه مضطراً إلى الإجابة، لأن أي رفض مني يكسر هذا القلب الطيب، ولا أنسى ما حييت تلك الأكلة المنحوسة وهي التي يسمونها (الملوخية)، ولا أنسى كيف يأكلون من غير صحاف ولا شوكات، إنما يغمسون خبزهم جميعاً في صحفة واحدة، وكان على أن آكل بأصابعي هذه الدجاجات المحمرة التي أكرمني بها، وجعل نصيبي منها اثنتين، وقد ذهبت من الدعوة رأساً إلى الفراش، فلبثت ثلاثة أيام مريضاً!
ورأيت في هذه الزيارة عقيلة الشيخ سافرة، لأن المعلم كالقس ليس كالرجال، ولا ضرورة للتحجب دونه (هكذا. . .)
وتوثقت صداقتي مع الشيخ، فعرفني بالقاهرة وحياتها، ولم يكن غنياً، غير أنه لم يمكني من فتح كيسي مرة واحدة حينما أكون معه، بل يكون السابق إلى دفع الحساب المطلوب، كنا