للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

نزور الأهرام، ونجول في القاهرة وهي أشبه بعشرين مدينة مجتمعة منها بمدينة واحدة، بل هي عالم لا بد لرؤيته من ثلاثة أشهر. أما أنا فقد لبثت فيها مع الشيخ مدة قصيرة وإن أنس ذكراها لا أنس وقوف القطار بنا يوماً في المحطة، ورؤيتنا قريب الشيخ ينتظرنا ومعه البلح والبرتقال والموز المصري الصغير وغير ذلك مما لا أدري من أين أتى به، وما كنا نتحدث إلا بالابتسامات والجمل المقطعة والإشارات، كأن صداقتنا صداقة صامتة تتكلم فيها القلوب لا الأسنة، ولما اعتزمت العودة إلى فرنسا، في منتصف تموز، ودعني على المحطة وألقى عليّ نظرة كلها حب وعطف، وقال لي: إلى الملتقى! ولا تنس أن منزلي هو منزلك. ثم اختفى بين الجموع وإنساني البحر الواسع، وشواطئ الوطن المحبوب كل ما عداهما.

فقالت الفتاة:

- أهذا هو الشرق؟ يا ضياع أحلامي!

فهز الأستاذ كتفيه، وعاد يقول بصوت خافت: وبعد أمد من رجوعي عينت مدرساً في مدرسة ماجيدي الثانوية في الألب، فلبثت فيها مدة، وتزوجت فيها، وكنت جد مشغول بأمور المدرسة، حتى أنه لم يكن في وقتي ساعة واحدة خالية، وإذا أنا ذات يوم أفاجأ بكتاب عليه خط رديء، وطابع من طوابع (النزهة)! فإذا هو من الشيخ، وإذا هو يخبرني بمجيئه مع امرأته وولديه ليقضي عندنا عدة أشهر، كأنما جاء يتقاضاني بدل ما أحسن إلي، وتصوروا وقع هذه المفاجأة على امرأتي التي أغمي عليها من شدة الدهشة، ولم أر أبداً من الانغماس في هذه المهزلة، ولا سيما وأنهم أبحروا دون انتظار جوابي.

نزلت إلى مرسيليا أنتظرهم، فوجدت شيخاً غريباً في سراويل متهدلة وطربوش، ومعه امرأة ضخمة، على رأسها منديل أسود والى جانبها بنت صغيرة. واتفق أن تفتحت أبواب السماء يومئذ فهطل المطر غزيراً، حتى شعرنا أن السماء قد هبطت على الأرض فدخلنا مقهى قريباً، ولكن البنت ارتاعت منه، فملأت الدنيا بكاء ولم تشأ السكوت، وأخيراً أزفت ساعة القطار فركبناه إلى ماجيدي، والناس يرمقونني يحسبون أني أنقل إلى البلد (سركا) غريباً. وبلغنا المنزل، فكان استقبال زوجتي بارداً، وجاءت ساعة الطعام، فلم تألف أيديهم الأكل بالشوكات والصحاف، وانتشروا بعد الطعام في قاعة الأكل وفي الغرف المجاورة، وبكى الطفل بكاء شديداً، فبكت زوجتي أيضاً، ووقعت أنا في حيرة بينهما، فلعنت الشرق

<<  <  ج:
ص:  >  >>