نحن اليوم في مدنية عجيبة لم يعرفها تاريخ العالم من قبل. هي مدنية تسيطر عليها الآلات الدائرة والسائرة في البر والبحر والجو، وقد اهتدت هذه المدنية إلى كشف أسرار الطبيعة فطوت المسافات وجمعت أطراف العالم. فاليوم يستمع المستمع في القاهرة - مثلا - إلى متحدث أو مغن في أقصى الأرض، وأمريكا أو أستراليا كما يستمع إلى جليسه. ويكلم من هو في أبعد البلاد كما يكلم القريب منه الذي يبصره ويسمعه.
وكل هذه الأعاجيب من الآلات السائرة والطائرة والجهازات الناقلة الأصوات الملغية المسافات - كل هذه يسخرها الإنسان لمقاصده، ولكنها هي كذلك تسخر الإنسان وتذهب بكثير من سعادته وسلامته وسكونه وراحته. وإن ترك أمرها فوضى عاش الإنسان بها شقياً. لا أتحدث في تسخير هذه الآلات للحرب والقتل وما إليهما؛ ولا اذكر ما لقيه العالم من شرها وضرها وفظاعتها وأهوالها، ولكن أقصد إلى أمر واحد أقصر عليه الحديث وهو أمر يبدو يسيراً، أو يخفي خطره وأثره، وهو عند التفكير عظيم وخطير، أعني راحة الإنسان وسكونه في ضوضاء هذه المدينة التي لا تفرق بين بعيد وقريب، ولا تميز بين نهار وليل. الإنسان في شقاء ظاهر وخفي من هذه المدينة، مسلوب أحب الأمور إليه وألزمها له: الراحة والسكون والدعة والطمأنينة، والحرية في تصريف وقته، والاختيار في ترتيب أعماله على الأوقات.
أحسب أن كثيراً مما يصيب الناس في أجسامهم وأنفسهم من علل، وكثيراً مما يقع في أقوالهم وأفعالهم من زلل، يرجع إلى هذا الداء الدخيل - إلى قلق الإنسان وتعبه واضطرابه في ضوضاء هذه المدنية شاعراً أو غير شاعر.
وقد حدثني أحد الأطباء أن أمراضاً كانت نادرة في العصور الماضية فشت اليوم بين الناس بالجهد الجسماني والنفساني الذي تكلفهم به المعيشة في العصر الحاضر.
والناس في هذا الأمر يختلف حظهم من التعب والنكد على اختلاف نفوسهم وثقافتهم وأعمالهم، فمنهم من ينطلق في هذه الضوضاء صائحاً مصفقاً مسروراً لا يقدر أثرها في نفسه وجنايتها عليه. ومنهم من يسأم ويبرم ويشقى قليلا، ومنهم منهو أكثر نصيباً من