الشقاء وهو رجل الفكر، فهو يشقي بها على قدر احتياجه إلى الهدوء والسكون ليعمل ويفكر ثم يستريح من عناء العمل والفكر.
ولعل شر ما يبتلي به الإنسان في راحته وسكونه هذه المجاهر (الميكرونات) التي تضاعف هذه الضوضاء كأن الإنسان لم يكفه ما يحيط من جلبة وصخب فهو يزيدهما أضعافاً بالمجاهر ليعيش في أفظع من الضوضاء الطبيعية وهو منها في شر مستطير.
وهذه المذيعات المسلطة على خلق الله بالليل والنهار، تحرمهم القرار، وتمنعهم السكون؛ هي إحدى آفات هذه المدينة ومن أضرها بالإنسان - إن لم يحسن الإنسان تدبيرها - هذا المذياع آلة عجيبة خطيرة تسمع كل ما في العالم من أصوات، وتأخذ منها ما شاءت أو ما شاء صاحبها ففي سلطانها كل الأصوات المذاعة في العالم فتمثل إنساناً جاهلاً أحمق يعطي هذه القوة، ويمكن من هذه المعجزة، يستطيع متى شاء أن يسلط على جيرانه ما يشاء من أصوات العالم مجهوراً بها مدوية، وهذه آلة يسيرة وسيزيدها العلم والصنع يسراً ورخصاً فكل عاقل وأحمق وعالم وجاهل وغني وفقير يستطيع أن يسيطر على الناس بهذه الآلة فيحرمهم الدعة والقرار، وينغص مضاجعهم بالليل والنهار، ويصير بلاء مسلطاً لا حيلة فيه ولا مفر منه ولا قدرة عليه.
تمثل إنسان هذا العصر، هذا المخلوق البائس الذي يعيش في المدن - تمثله في النهار يسير في خطر الترامات والسيارات وما إليها، وقد صبت على رأسه أصوات المنبهات والمخدرات والزامرات والصافرات على اختلاف الأصوات والنغمات، فهو يمشي في خطر أن يداس بهذا السيل المستمر من العجلات وبينه إلى هذا الخطر أن نفع التنبيه بهذه المنبهات المفزعة التي تغلو في رفع الصوت لتسمع السابلة وسط هذه الضوضاء الفظيعة وتتنافس في رفع الصوت ليمتاز صوت كل واحدة من الأخرى والإنسان المسكين يخطو مرة ويقف أخرى وينظر أمامه حيناً وحيناً وراءه وعن يمينه وشماله.
إن هذا البلاء عظيم يحتمله الناس بما اعتادوه وألفوه، وبما استكانوا له واستسلموا وصبروا عليه يأساً من الابتعاد عنه والخروج منه.
وهذا الإنسان البائس يرجع إلى داره مكدوداً - ولا أقول يرجع إلى مسكنه فليس هنا سكون - والدور في المدن متزاحمة متلاصقة ذات طبقات كثيرة فيسلط عليه تاجر من أهل الحي