وأشهد لقد سمعت أكثر من مرة إعلان تاجر عن سلعه بمجهر، يسخر قارئاً يقرأ القرآن حيناً، ثم منادياً ينادي في الناس بما عنده من جبن وزبد وزيتون وغيرها.
وقد سألت أين هذا البلاء المبين فقيل بعيد جداً، فقلت هذا ما يصيب البعيدين منه فكيف بالقريبين! تساءلت أليس في البلد قانون؟ أليس لقوانينها سلطان؟ ألا يشعر الناس بما هم فيه من شقاء؟ ألا يعربون عن شعورهم؟ ألا يثورون على هذا العذاب المسلط ويعملوا على الخلاص منه؟
وقد أدخل التجار من حيث لا يشعر الناس بدعة هذه المجاهر في الحفلات ولا سيما في المآتم فترى جمعاً في سرادق يسمعه ويتعداه صوت متكلم أو مطرب؛ ولكن البدعة التي استحكمت سريعاً باتخاذ المجهر فيسلط هذا البلاء على الداني والقاصي من خلق الله، وربما يستعمر ساعات متوالية فلا يستطيع الإنسان أن يستريح أو ينام أو يقرأ أو يكتب، فأي شر أكبر من هذا؟
وقد سمعت مرة صوتاً فظيعاً يسمع على بعد أميال فنظرت فإذا جماعة قد وسمعتهم حجرة واحدة وقد وضعوا مجهراً خارج الحجرة وأرادوا أن يتصدقوا على الناس بإشراكهم فيما يسمعون، والصدقة خير ما كان أعم وأشمل فليرفع هذا المجهر ما وسعه الجهر والتبليغ، وأما من يضيق بهذا الصوت فلا وزن له عند الله ولا عند الناس؛ إن ضاق بصوت القرآن فلا دين له، وإن ضاق بالغناء فلا شعور له.
وسمعت مرة صوتاً عالياً مدوياً في شارع من شوارع القاهرة التجارية المزدحمة وفهمت مما سمعت حفلة لعيد ميلاد طفلة، والخطباء يتبارون في التهنئة وعرفت أن أبا الطفلة لم يولد منذ سنين. ولهذا كان الاحتفال وتبارى الخطباء. هذا يسمعه السابلة في شارع من الشوارع المكتظة التي لها من ضوضائها ما يغنيها عن كل ضوضاء.
ثم تمثل هذا الرجل المكدود الذي تتناوبه أصوات السابلة في الطريق يأوي إلى داره يلتمس الراحة ليلاً - ودع راحة النهار - فإذا جيرانه قد فرغوا من أعمالهم ومن طعامهم وجلسوا إلى المذياع وتنافسوا في الجهر بما يذاع، إما رغبة في الصوت الرفيع، وأما إعجاباً بالغناء أو القصة، وإما تصدقا على الجيران المحرومين من هذه النعمة، فيرسلون أصواتاً تسمع