للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من مآسي هذه الحرب]

أجل، هي مأساة من مآسي هذه الحرب وإن وقعت في قرية صغيرة لأسرة فقيرة. فلا تقل أين (منصور جراد) من (استالين جراد)، ولا أين خمسة نفر أهلكهم الجوع من ملايين طحنتهم رحاً عرض شقيها كعرض السماء والأرض؛ فإن الموت في معركة الدبابات، كالموت في معركة الزهور. والشقاء الذي يكرب أنفاس أسرة، هو بعينه الشقاء الذي يفدح كواهل أمة. والموت لا يقاس أثره باتساع ميدانه وانتشار مداه ما دامت الجماعة لا تحسه إلا إحساساً جزئياً في كل فرد منها. والفرد مهما قوى شعوره لا يدرك من بحيرة السم غير القطرة التي تسرى فيه، ولا من أطنان القنابل غير الشظية التي تفتك به

ما أظنك نسيت صديقنا الشيخ منصورا ومواقفه الجريئة من أصحاب الضياع والألقاب، أيام الانتخاب لمجلس النواب فقد كان في جرأة قلبه وعزة نفسه مثل الفلاح المؤمن بعظمة الله وكرامة الإنسان وحقارة الدنيا؛ وكان كما علمت من وصفي إياه قد تعاظمت في نفسه الحرية حتى احتقر المالك، وألحت علي جسمه السلامة حتى سئم العافية، ونفرت عن قلبه الهموم حتى ألف السعادة

هذا الرجل الذي كان شخصه يتميز في الزحام من أبعد، قد استسرت على معرفته وهو أمامي! لقد ذوي ذلك المحيا النضر، وتهدم ذلك الجسد الوثيق، وتخدد ذلك العضل المكتنز، وتجرد ذلك الهيكل الريان، حتى ليخفق جلبابه على ألواح!

لقد انقطع علم ما بيني وبينه منذ دهر طويل، وكان آخر العهد به لقاء ضاحك في بعض قرى الريف وهو على حاله تلك من الوثاقة والطلاقة والصحة؛ فلما علم أني قدمت المصورة في هذا الأسبوع جاء يزورني متحاملاً على نفسه. فلما أقبل علىّ أنكرته أول ما رأيته، ثم لم ألبث أن عرفته بما بقى من سيماه على وجهه. فصافحته وأحسنت لقاءه؛ ثم دعوته إلى الجلوس فسقط بجانبي على الكرسي كما يسقط كيس من العظام على الأرض. وعقل الدهش لساني فلم أسأله عن أمره. وحدس هو ما يعتلج في نفسي من الخواطر فقال بصوت غير صوته، ولهجة غير لهجته:

- لعلك ظننتني خارجاً من المستشفى، أو بالحرى مبعوثاً من القبر! ليت ما بي كان المرض، فقد يكون للمرض دواء! وليت ما بي كان الموت، فقد ينحسم بالموت الداء! إنما هو جسم يذوب في نار من الهم لا تخبو، وروح تزهق في حشرجة من الكرب لا تنقطع!

<<  <  ج:
ص:  >  >>