للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

- إذن أنت يا صديقي حزين؟

- إذا كان لفظ الحزن يعبر عن هذا الذوبان الدائم وذلك الاحتضار المتصل فأنا حزين

- هل فقدت عزيزاً عليك؟

- لقد فقدت كل عزيز علي!

وهنا خانه الجلد فلم يستطع المسكين أن يملك دمعه. فلما هدأت نفسه وراجعه صبره قال:

- أنا في حياتي ما شكوت ولا رجوت، ولكن الخطوب التي قوضت ركني وسودت حياتي هي التي أكرهتني على أن أشكو وأرجو؛ وذلك وحده خطب الخطوب

كان ذلك في شتاء سنة ١٩٤١، وكان لي عامئذ زوجة مخلصة وابنة عزيزة وثلاثة شباب بررة. وكنا نحن الستة، ومعنا بقرتنا العاملة الحلوب، وحمارنا الفاره الدءوب، وكلبنا الحارس الأمين، لا نفترق ولا نختلف، ولا نرى الدنيا إلا في بيتنا وحقلنا، ولا نجد اللذة إلا في لباسنا وأكلنا. فإذا جار المالك علينا في القسمة، عدل الله فينا بالعوض.

وإن جرى القضاء علينا بما نكره، انتهى الصبر بنا إلى ما نحب. حتى أزمت هذه الحرب الناس، فضاق الرزق، وامتنع الوارد، وارتفعت البركة، وفشا المرض، وأعوز الداء، واختزن الملاك ما تنبت الأرض، واحتكر التجار ما تجلب السوق، ففحش الغلاء، وطفف الكيل، حتى أصبح الأجير يعمل الأسبوع كله ليشتري كيلة من الذرة إذا وجدها. ثم قضت سياسة التموين أن تشتري الحكومة مقداراً من القمح مفروضاً على كل زارع. وقضى الله الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إلا تزيد غلة أرضي على حصة الحكومة عندي، فنقلت على حماري ما في الجرن إلى بنك التسليف؛ وحجز المالك ثمن القمح استيفاء لبعض إيجاره، فخرجت صفر اليدين من النقد والحب، فلا في الجيب ولا في المخزن. ولكننا يا سيدي أحياء؛ والحي لا مناص له أن يأكل. فقمت أنا وزوجتي وابنتي على زراعة الأرض ورعي البقرة، واشتغل بني الثلاثة أجراء عند الناس، فكنا نجع أجرتهم في كل ثلاثة أيام لنشتري بها كيلة واحدة. وماذا تصنع الكيلة من غير إدام في ثلاثة أيام لستة أفواه؟

على أن هذه الحال لم تدم، وليتها دامت! فقد نفدت الحبوب من القرية، وحرم على الناس نقلها من بلد إلى بلد، فكنت أقبض أجرة أولادي في المساء، ثم أذهب إلى المنصورة في الصباح، فأشتري بها الخبز المخلوط ما لا يسمن ولا يشبع. وعلى هذا النمط النابي من

<<  <  ج:
ص:  >  >>