الهجرة من الناحية التاريخية حادث من أبرز الحوادث في تاريخ الإسلام إذ كانت فاتحة مجده، ومقدمة علو كلمته على الشرك والمشركين. بها أعز الله الإسلام، وصار المسلمون بعد أن كانوا يستخفون من قلته، ويتسللون لواذاً للمدينة فارين بدينهم وأنفسهم، أقوياء بعد ضعف، فيهاجمون قريشاً ومن حالفها، وقد كانوا لا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم عدوان المشركين وجبروتهم. لا جرم أن أفاض المؤرخون والكتاب في هذا الحادث؛ يصفونه، ويقصون ما كان من أمره في بدئه ونهايته.
لكن للهجرة نواحيها الأخرى التي لا تقل عن الناحية التاريخية خطراً، والتي يجب فيما أرى أن نتذكرها ففي هذا عظة وخير. من هذه النواحي الناحية التي تتصل بالأخلاق.
كلما تذكرنا هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة مثابة قومه إلى المدينة مستقر أنصاره، نتمثل المبدأ القويم واعتزاز صاحبه به، ومحافظته عليه، ولو وقف الموت في سبيله أو عرضت عليه الدنيا بأسرها، كما نتمثل التضحية في سبيل المبدأ بالمال والولد وسائر ما تحرص عليه فطرة الإنسان وطبيعته. لقد صدع الرسول الشجاع بما أمر به، فلقي قومه من ذلك عظيماً، ورأوا فيه تسفيهاً لأحلامهم، وسباً لآلهتهم، واستهانة بما كان أسلافهم عليه من عقائد موروثة ودين مقدس عزيز. هبت قريش تتلمس السبل للتخلص من هذا الذي أقض عليهم مضاجعهم، وكان لهم في هذا محاولات عدة، باءوا من جميعها بالفشل؛ ومنها ما عرضوه من أن يُملِّكوه عليهم، فيكون الملك المطاع، وهم الرعية الخاضعة. رفض الرسول إذاً كل ما تقدمت به قريش؛ إذ وجد في ذلك ما يحول دونه ودون ما أخذ نفسه به من الجهر بالدين حتى ينال النصر، وتكون كلمة الله هي العليا. وفي ذلك موضع الذكرى والعظة!
ورأت قريش مع هذا أن تعالج الأمر من ناحية أخرى بالقوة العارمة والعذاب الشديد للمستضعفين من المسلمين تريد فتنتهم وردهم للكفر وقد نجاهم الله منه. لكن هؤلاء قابلوا الفتنة بالصبر والتضحية قبل الهجرة وحين شرعوا فيها. كان أول من هاجر إلى المدينة - فيما يروى ابن إسحاق - أبو سلمة عبد الله. فلما أجمع الخروج فرقت قريش بينه وبين