للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[صلاة عصر في مسجد قرطبة عام]

١٣٦٨ هـ

للدكتور محمد موسى

منذ فرغت من عملي في (السوربون) وأنا أحلم بزيارة للأندلس أرضي بها العقل بالتنقيب في مكتبة (الأسكوريال) والروح بالعيش فترة من الزمن في الأرض التي ذللها أجدادنا وقامت فيها عواصم للعلم والسياسة في الإسلام. وكان كل ما شاهدت من مدريد إلى اشبيلية حيث أنا الآن يؤكد لي أن أسبانيا بلد ليس بالغربي ولا بالشرقي، بل هو بين بين. هو حقاً بين الشرق والغرب بما أحتفظ من تقاليد الأول وعادته، وبما تمكن فيها عن الآخر من المسيحية التي تتعصب لها تعصباً شديداً؛ والارض نفسها تمثل هذا ايضاً بما تنبت من الزيتون والنخيل وقصب السكر والموز، إلى جانب مزروعات الغرب التقليدية.

لكن قرطبة عاصمة الأمراء والخلفاء شئ غير هذا كله. لقد كان القطار يسير بي من مدريد وأنا في شغل عما حولي! كنت أعيش بخيالي وعاطفتي في قرطبة الإسلام، في قرطبة التي صارت مقبرة لعصر من اكبر العصور الإسلامية أزدهاراً، في قرطبة عبد الرحمن الداخل وأعقابه الاماجد، في قرطبة ابن رشد وكبار العلماء الاسلاميين. لقد أستبد بي الخيال، وأسرتني العاطفة حتى خلفني مقدماُ على بلد إسلامييموج بعلماء الإسلام موجاً؛ ولكني وصلت إليها فإذا الأهل غير الأهل، والوجوه غير الوجوه، وإذا العجمة والمسيحية هي الحاكمة المستبدة في كل شئ!

وأخيراً، هاأنذا في المسجد الذي يمثل الشيء الوحيد الحري بالزيارة في المدينة: هذا هو (صحن البرتقال) مجمع حلقات العلماء؛ وهذا هو (اللّوان) أو الدهليز اليميني حيث مجلس أبن رشد يشرح أرسطو ويقربه للناس؛ وهذا هو الدهليز الشمالي حيث كانت تقام العدالة وتفصل الخصومات؛ وبعد هذا ها هو ذا المسجد نفسه الذي يحس المرء فيه بقبس من الخلود، حيث كان العلماء من المسلمين واليهود والنصارى يتدارسون لغة واحدة هي العربية، ويتعلمون ويعلمون علماً واحداً هو العلم الإسلامي كما ينقل (رينان)! كل ذلك ذهب وصار تاريخاً بعد أن كان حقيقة تملأ الأذن والبصر!.

وفي وسط المسجد أقيمت الكاتدرائية! إلا أنها على ضخامتها لم تنل من الأثر الإسلامي

<<  <  ج:
ص:  >  >>