للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

المواهب من الأدباء والفنانين عن طريقهم الطبيعي ليسلكوا طرقاً أخرى لا يجنون من ورائها إلا بعد الشقة بين ميدان لم يخلقوا له وميدان ما كان أحوجهم إليه؟!.

إن الجواب الذي يقبله العقل على هذا السؤال هو أن المواهب تستغل في غير ميادينها جرياً وراء المادة. . . وهذه الحضارة التي نعيش فيها قوامها المادة تبدأ منها وتنتهي إليها، وتدفع الناس إلى أن يتلمسوا الوسائل لكسب العيش عن طريق غير طريق الأدب والفن في كثير من الأحيان، لأنه طريق غير مرجو الفائدة ولا مأول العواقب في ميدان النضال مع الحياة. ومن هنا يتجهون باستعدادهم وملكانهم اتجاهاً يبغون من ورائه الكسب المادي والمكان الموموق، والفن في رأي الماديين لا يحقق لهم شيئاً من هذا؛ وماذا تجدي الشهرة في رأيهم مع الفاقة أو يعود عليهم من المجد وفي ركابه الحرمان؟!.

إن صوت هربرت ريد في كتابه (الفن والمجتمع) ليضيع وسط ضجيج المادية الأهوج حين يقول: (يجب أن ننظر إلى الفن نظرتنا إلى كل شئ لا يستغني عنه، مثله كمثل الخبز والماء، وعلى أنه جزء من حياتنا اليومية لا يتجزأ. . . وينبغي ألا يعامل الفن كضيف عابر، ضيف يدفع أجر ضيافته، ولكن كواحد من أفراد الأسرة سواء بسواء!

أن الحضارة الحديثة وتعقد مشكلاتها قد استبدت بالمواهب والعقول فوجهتها تبعاً لهذه المشكلات، وما فيها من تعقد لم يدع لها من لحظات الفراغ ما يمكنها من استلهام الوحي في الفنون الرفيعة. . . وما أبعد الفرق بين الفنون في ماضيها الغابر وحاضرها المشهود! لقد كان الناس في الماضي يعيشون للفن ويطربون له، ويشجعون المواهب على أن تمضي في طريقها فلا انحراف ولا اعوجاج، وإنما اتصال مطلق بالطبيعة واستلهام لمظاهرها وروائعها، فلما تعقدت الحياة وطغت المادية على كل شئ طغيانها القوي الجارف انحرفت المواهب عن ميادينها الأصيلة وانحرفت معها الأذواق جرياً وراء المادة. . . وماذا تجدي الشهرة كما قلت في رأي الماديين مع الفاقة أو يعود عليهم من المجد وفي ركابه الحرمان؟.

أنور المعداوي.

-

<<  <  ج:
ص:  >  >>