للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[النواحي الإنسانية في الرسول]

للدكتور زكي مبارك

أعتقد أن شخصية النبيّ محمد لم تُدرس حق الدرس إلى اليوم في البيئات الإسلامية لأن المسلمين يجعلونه رسولاً في جميع الأحوال: فهو لا يتقدم ولا يتأخر إلا بوحي من الله، ولا يأخذ ولا يدع إلى بإشارة من جبريل

ومعنى ذلك أن شخصية محمد في جميع نواحيها شخصية نبوية لا إنسانية

يضاف إلى هذا أن جمهور المسلمين يعتقدون أن النبوة لا تُكتَسب، وهم يعنون بذلك أنها لا تنال بالجهاد في سبيل المعاني السامية، وإنما هي فضل يخص الله به من يشاء

وإنما غلبت هذه العقيدة لأن الإسلام نشأ في بيئات وثنية، أو خاضعة للعقلية الوثنية، والرسول لم يَشْقَ بين قومه إلا لأنه حدثهم بأنه بَشرٌ مثلهم، ولو أنه كان استباح الكذب فحدثهم بأن فيه عنصراً من الألوهية لوصل إلى قلوبهم بلا عناء

الواقع أن محمداً كان آية من آيات التاريخ، ولكن كيف؟

لا تسألوا عن أشياء أن تبد لكم تسؤكم. فبنوا آدم يصلحوا لكل شيء إلا سماع كلمة الحق

أراد الله أن يكون الإسلام إعزازاً للفكرة الإنسانية، ولكنْ بنو آدم يؤذيهم ذلك؛ لأنهم خضعوا لألوف أو ملايين من الأوهام التي تشل القلوب والعقول

كان محمد إنساناً بشهادة القرآن، والقرآن كتاب سماويٌّ نص على أن محمداً إنسان، وبنو آدم يؤذيهم أن يتلقوا الحكمة عن رجل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق!

وفي غمرة هذه الضلالة نُسيت النواحي الإنسانية في حياة الرسول وإلا فمن الذي يصدق أن رجلاً مثل محمد يضيع من عمره أربعون سنة بلا تاريخ؟

ولأي سبب ينسى الناس أو يتناسون تلك المدة من حياة الرسول؟

إنهم يصنعون بتاريخ الرسول ما صنعوه بتاريخ الأمة العربية لأنهم أرادوا أن يخضعوا خضوعاً تاماً للمعجزات، فالنبي لم يكن رجلاً عبقرياً وإنما خصه الله بالرسالة فكتب له الخلود، والعرب لم يكونوا أمة قوية وإنما ارتقوا بفضل الرسول

وما يجوز عند جمهور المسلمين أن يقال: إن الله خصَّ محمداً بالرسالة، لأنه كان وصل إلى أسمى الغايات من الوجهة الإنسانية، ولا أن يقال: أن الله اختار ذلك الرسول من

<<  <  ج:
ص:  >  >>