قالوا في قديم الأمثال:(ليس المتعلق كالمتأنق)، فالرجل الذي أنعم الله عليه بسعة العش، وأرخى باله من هموم الحياة، مطيق أن يتأنى فيما يختار لنفسه متذوقا ومتخففاً حتى يرضى، أما الذي قدر الله عليه رزقه فهو كالسهم قي الوتر المشدود ترمي به يد الحاجة إلى هدف يتخايل له أو يتحقق، وهو لو أراد لما أطاق إلا الذي فعل لأنه مدفوع بالاضطرار. ورب سارق لم يجد من السرقة بدأ لأنه دفع إليها بحاجة طبيعية لا يطيق أحد خلافها، وهو التعلق بالحياة والإبقاء على النفس، فهو يريد أن يطعم الغريزة التي تلهب أحشاءه بالجوع المهلك. ومهما تكن روادع نفسه، ومهما تكن قوتها، فهو منتهٍ إلى ساعة لا يجد عندها إلا أن يمد يده ليخذ شيء يمسك عليه رمقاً يوشك أن يتبدد. وما مد الرجل يده، ولكن الحياة هي التي مدتها، فهو خليق أن لا يكون عندئذ مسئولا عما فعل. وكذلك الشأن في أحداث كثيرة تكون في هذه الحياة الدنيا وفي هذا الناس، فإن المجتمع الإنساني يعنف بأبنائه أحياناً ويعتسف بهم أضل المجاهل، لأنه لا يبالي بأن يكفل لأبنائه جميعاً حاجتهم التي لا غنى لأحد منهم عنها، ولأنه يغفل في فورانه عن الطبائع الأولى التي تتطلب زادها من الحياة، والتي إذا فقدت هذا الزاد لم تبق على شئ، ولم ترع شيئاً، ولم ترعو عن شئ. وهذا ضلال قديم في النظام المجتمع الإنساني، أراده الأنبياء بالإصلاح، وأراده عقلاء المفكرين بالتغير، فأدركوا شيئاً ووقف بهم العجز عن كثير، لا من عجز في هدايتهم أو آرائهم، بل من عجز المجتمع عن أن يدرك سمو الأغراض التي رمى إليها الأنبياء والمفكرين.
وفي عصرنا هذا أمثال كثيرة على تغلغل الفساد والجهل والعسف وقلة المبالاة في قلب المجتمع الإنساني. أمثال يكون فيها الأفراد هدفا منصوباً لاضطهاد جماعة الأمة أو الشعب، وأمثال تكون فيها الأمة هدفاً لاضطهاد جماعة الدول أو الشعوب.
فليس في الأمم اليوم أمة لا تتداعى وتتنادى باسم الحرية: حرية الفرد، وحرية الفكر، وحرية العقيدة، وحرية التجارة إلى أخر هذا الحشد من الحريات، فهي بذلك تقرر جميعا أن الحرية أكبر أغراضها، وهذا طبيعي، لأن الحرية هي إحدى الطبائع المستقرة في الإنسان الفرد، وهو يطلها طلباً حثيثاً ملحاً، حتى ولو اضطر أن يستعبد نفسه لعملا يكدح في سبيله