لم يحيي أحد من الشعراء حياة صدق صريح لا مواربة فيه ولا خداع كما حيي أبو العلاء. . . ولم تكن حياة أحد قصيدة من الشعر المكلوم المكتوم الحزين الباكي الناقم كما كانت حياة أبي العلاء. . . ولم يعبس أحد للحياة تلك العبوسة الطويلة المظلمة التي غبرت ثمانين عاماً، كما عبس هذا التنوخي أحمد بن عبد الله ابن سليمان، آكل البُلْسُن والبَلَس؛ ولم يثقف شاعر نفسه بكل ما استطاع أن يثقفها به مما وصلت إليه يده وقدرته كما فعل المعري؛ ولم يأخذ أحد نفسه بما أخذها به أبو العلاء من شدة وجد وصرامة، فقد عاش طول حياته منطويا على نفسه، عزوفا عن الناس، نباتيا لا يذوق اللحم، صواماً لا يفطر إلا في العيدين كما يحدثنا الأستاذ متز، مستعلياً عما فطرنا الله عليه من حياة وتناسل، حابساً نفسه في مائة سجن من شذوذه الذي يصادفك في كل شيء. . . في شعره وفي نثره وفي أخباره وفي ثقافاته وفي اختلاف الناس فيه. . . والسجن المؤبد في العرف الحديث هو ما زاد على العشرين عاما، إلا أننا لم نسمع عن سجن مؤبد زاد على الخمسين إلا في حياة أبي العلاء، وكان مع ذلك سجنا اختيارياً حبس الشاعر فيه نفسه عن طواعية. . . فلم يضق به. . . ولم يزور عنه، ولم يشك منه لمخلوق، بل كان له وفياً، وبه حفياً.
أراني في الثلاثة من سجوني ... فلا تسأل عن الخبر النبيث
لفقدي ناظري، ولزوم بيتي ... وكون النفس في الجسم الخبيث
وإذا قال لنا المعري إن سجونه كانت ثلاثة فهو يقول هذا تجوزا، لأنه دعا نفسه رهين المحبسين، وهو في الحقيقة رهين مائة محبس أو تزيد. . . فالمعري لا يلقاك إلا في سجن، ولا يحدثك إلا في سجن، ولا يسخر بك ويستهزئ منك إلا في سجن، لأن كل عادة من عاداته سجن، وكل طبع من طباعه سجن. وهو يفتن في ابتكار السجون التي كان مأخوذا بحبس نفسه فيها. فأنت تقرأه في الفصول والغايات فلا تفهمه، ولا تعرف ماذا يريد أن يقول، لأنه يختبئ منك وراء جدران سجنه الغليظة السميكة التي بالغ أشد المبالغة في غلظها وجعلها سميكة، لأنه تعمد ذلك، وسعى أليه. . . إنه لا يريد أن تفهمه في سهولة ويسر كما تفهم سائر الناس. . . لأنه ليس كسائر الناس. . . وأنت كذلك تقرأه في لزومياته