فيخيل لك الغرور أنك تفهمه، مع أنك لا تفهم مما يقول شيئا. . . إنه يختبئ منك ويستخفي وراء سجن يشبه هذا الجحيم الذي صوره في رسالة غفرانه. . . سجن كله دركات مثل دركات جهنم، من فكرة في صدر البيت، تنفيها فكرة في العجز، ومن رأى في البيت الأول يضربه رأي في البيت الثاني، ومن عقيدة في هذه القصيدة تلطمها عقيدة أخرى في التي تليها. . . كل ذلك في ألفاظ خبيثة يخيل إليك أنها حوشيه، ألفاظ تكاد تصرفك عن قراءة هذا الذي سماه أبو العلاء شعرا، وما هو في نظرك بشعر. . . بل هو في نظرك كلام لا ينتمي إلى اللغة العربية التي عرفها الناس لغة راقصة ضاحكة طروبا. . . لا لغة عبوسا متجهمة تجهم تلك الثاكل التي وقفت بشاطئ اليم تبكي بنيها الذين ابتلعتهم لجته، ولما يلفظهم عبابه!!
ثم أنت تقرأه في رسائله الكثيرة المطبوعة التي نفحني عمي - شفاه الله وأطال بقاءه - بنسخة منها منذ أكثر من ربع قرن فلم أعن بقراءتها إلا حينما سمعت الناس يلغطون بذكر أبي العلاء، ويملأون الدنيا ضجيجا فرحين بعيده الألفي. فلا تكاد تفهم سطرا مما يقول، ولا تكاد تعرف فحوى رسالة واحدة من تلك الرسائل الكثيرة التي كان يرد بها على مناظريه، فيلجمهم، ويخرسهم أبد الدهر. . .
فما هذا كله الذي جشم أبو العلاء نفسه من وعورة الألفاظ والتراكيب؟ وما تصيده ذاك كله لشوارد الكلمات وأوابدها، إن صح أن تكون في الكلمات أوابد! يجب أن نتلمس العلل والأسباب لتلك القيود التي قيد بها أبو العلاء قراءه. . . ولم يتقيد هو منها بشيء كما يتوهم الكثيرون. . .
إذن، فقد نشأ أبو العلاء بمعرة النعمان في أسرة من الفقهاء والعلماء والأدباء والشعراء والقضاة وسراة الناس. . . جدوده قضاة وعلماء، وأعمامه قضاة وعلماء وشعراء، وأبوه قاض شاعر رقيق الديباجة اسمه أبو محمد عبد الله؛ وقد أعطانا ياقوت الحموي في معجمه (ج٣ ص١٠٩ - دار المأمون) نموذجا من شعره في رثاء أبيه، جد أبي العلاء، حيث يقول:
إن كان أصبح من أهواهُ مطرحاً ... بباب حمص فما حزني بمطرح
لو بأن أيسر ما أخفيه من جزع ... لمات أكثر أعدائي من الفرح