خرجنا إليه في صفرة الطفل، وقد سكرت الريح، وسجى المساء. وكان اليوم روحاً، فما تجاوزنا أزقّة المدينة الضيّقة الملتوية وبدا لنا سور البقيع الهائل الذي أقاموه في وجه مدينة الموت كيلا تبتلع مدينة الحياة. . . حتى هبّت الرياح لواقح، فأنشأت سحاباً ما لبث أن أكفهر وتطخطخ وعمّ السماء، فأظلمت الأرض واسودّت، وعادت كئيبة تملأ النفس غمّاً. وكنّا قد بلغنا البقيع، فرأيته موحّشاً مظلماً رهيباً:(قاتم الأعماق خاوي المخترق) وشممت منه رائحة الموت، فتهيبت دخوله في هذه الأمسية، وأزمعت العودة، ولكن صاحبي أصرّ عليّ وشجّعني، ثم أخذ بيدي فإذا أنا وراء السور، وإذا ساح فسيحة، ممتدّة الجوانب، مظلمة الأرجاء، ساكنة سكون الموت، ليس فيها بناء ولا قبّة ولا تابوت، كأنما لم يسمح لبشر أن ينصّب في حرم الموت معالم الحياة، أو يدنس دار البقاء بشارات الفناء. . . فأغمضت عيني، وشددت على ذراع صاحبي، وجعلت أدنو منه لما أجد من الوحشة وأحس من الجزع، وما عاهدتني من قبل أعرف الخوف أو أدري ما الجزع، فسار بي يقودني حتى هبط بي غوراّ عميقاً، حال بيني وبين الفضاء، وحجب عنّي السور الذي كنت أراه فأنس برؤيته، وأذكر إنها لا تزال وراءه دنيا حافلة بالنور والجمال والحياة. . . فلم أعد أرى شيئاً، وأمحت من خيالي كل صورة، وطارت من رأسي كل فكرة، إلا فكرة الفناء، وصورة الموت، وأحسست وأنا أهبطه إني هابط إلى القبر! وخيّل إلى إن أشباح الموتى ترقص من حولي، وتدنو مني وتمسّني وتهم بعناقي، فتقف كل شعرة في جسمي، ويزداد قلبي خفقاناً، وتتخاذل ركبتاي حتى أهم بالسقوط، ويطن في أذني صوت رهيب مستطيل يلقى في روعي إنه نشيد الفناء. . . وكان كل ما يحف بي مخيفاً رائعاً، فالقبور، والظلام الشامل، والسكون العميق، والسماء التي لا تطرف فيها من النجم عين، والمكان الذي لا تبلغه نسمة من نسمات الحياة، وجلال الموت، كل أولئك كان يخيفني، ويصب في قلبي الوحشة والفزع. . . ثم صاحت بومة على سور المقبرة. . . فاستمسكت بصاحبي وقلت: عد ويحك!
قال: كيف أعود وقد بدأت الزيارة. . . هذا قبر عثمان! وكأن ذكر عثمان قد رجّع إلي