للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

نفسي، فنظرت فلم أجد قبراً ولا شيئاً يشبه القبر، وإنما وجدت حجارة صغيرة قد صففت على وجه الأرض، وفرشت من حولها رمال حمراء ناعمة، كحوض أعدّ لزرع فيه الورود، فقلت: أتهزأ بي يا. . .

قال: لا والله. ولكنّي أقول الحق. هذا قبر عثمان

قلت: يا لسخرية القدر! أتحرثون موضع قبر عثمان أمير المؤمنين لتزرعوا فيه الورود؟

قال: أي ورود؟ كل القبور هكذا. . .

قلت: لعلّك أخطأت القبر. اذهب فاقرأ اسمه

قال: قد طمست الأسماء، فما عليه من أسم. ولكن ثق إنه هو. أعرفه من هذه الغضاة!، أشار إلى غضاة قريبة منه لا أدري كيف دخلت حرم الموت فأنست بها. وذكرني الغضى دنيا مليئة بالصور، مترعة بالحياة نفت عني بعض ما أنا فيه من الغربة والجزع، فقلت: وكيف تعرف غيره من القبور؟

قال: ما أعرف إلا قبور آل البيت، وقد كنت أعرف قبر مالك فاختلط على ونبيسته، ولكن يعرفه إذا شئت (العم حمد) خادم المقبرة، وبعض الشيوخ من أهل المدينة. . .

وانقطع الحديث فقد استشرى البرق وائتلق، ورعدت السماء، ثم هطلت بمطر بعاق قشرة وجه الأرض. وجعل فيها بركاً وأنهاراً، فلم نجد شيئاً يعصمنا من الماء نأوي إليه، إلا هذه الغضاة وما تكاد تعصمنا. . . والمطر في الحجاز أعجب شيء رأيته: فبيّنا الشمس طالعة، والأرض متسعرة، واليوم خدر عصب، وإذا السماء قد تلبّدت بالغيوم، ودوت بالرعد، والأمطار قد نزلت كأفواه القرب، واليوم قد عاد قرّاً بارداً، ثم لا تلبث حتى تنجلي السحب، وتصحو السماء، فتنظر فإذا الأرض قد بدّلت غير الأرض، وإذا السيول قد جرفت البيوت، وخرّبت الطرق، وطمّست المعالم، كما يطمس سطر سال عليه ماء. . . ولقد ضنناها سحابة صيف ولكنّها لم تنقشع، ولم تزدد الأمطار إلا شدّة وتهطّلاً، ولم يزدد الرعد إلا قعقعة وقصيفاً، حتى كأن الدنيا مجنونة، عاودتها نوبتها، فهي تصرخ وتقفز وتمزّق ثوبها بيدها، وتشق حنجرتها بصراخها. . . بيد إني لم أكن أحفل بالبرد ولا بالمطر، ولم أكن أذكر الخوف ولا الجزع، ولم أكن أفكر إلا في هؤلاء الأبطال الذين فتحوا الدنيا، وملكوا العالم، ثم ظنّوا عليها بقبر يعرف، أو اسم يقرأ، أفكر في هؤلاء العظماء. . .

<<  <  ج:
ص:  >  >>