كم انحنت تحت أقدامهم هام الجلاميد الصم حتى وطئوها، كم استكانت لهم هذه الرمال الهائلة حتى قطعوها، كم دانت لهم البادية المهلكة حتى جابوها، ليخرجوا منها فاتحين إلى أرض الرياض والعيون، فيبلغوها رسالة الصحراء، وينشروا فيها دين الصحراء! لقد انتصروا على البادية المهلكة، والشمس المحرقة، والجوع القاتل، والعطش المميت، والعدو الجبار، والجيش الجرار، ثم انتصر عليهم البقيع، فإذا هم مستقرّون في أحشاءه، وإذا هم قد ناموا فيها إلى الأبد، فلن يذهبوا إلى الحرم ليقيموا الصلاة، ولن يمتطوا ظهور جيادهم ليمشوا إلى الجهاد، ولن يحملوا الراية الإسلامية لينصبوها إلى أقصى العالم، ولن تستقبلهم زوجاتهم وأولادهم وإذا عادوا ظافرين، بل هم لا يرون طلعة الشمس ولا يبصرون صفحة القمر، ولا يسيرون على وجه الأرض. . . انتصرت أيّها البقيع؛ فما وفّيت ولا أنصفت. . . جاءك الأبطال الذين فتحوا الدنيا، ونشروا راية العدل على الأرض، وأضاءوا طريق الهدى للناس، ليستريحوا في إرجائك، ويناموا في حماك، فحرمتهم قبراً يعرف لهم، وحجراً تكتب عليه أسماؤهم ما نريد منك أن تنقش على قبورهم آيات التبجيل والثناء. فإن لهم من أسماؤهم الكبيرة، غنيّة عن كل تبجيل وثناء لكنّا نريد ألا تنسى هذه الأسماء
سيموت الشيوخ الذين يعرفون هذه القبور، أف يرضيك أيها البقيع أن يأتي الجيل الجديد، فيفتّش عن هذه القبور فلا يجدها، فيقول: هاتوا المعول، هاتوا الأحجار. . . أبنوا هنا ملعباً! لا نجد في هذه المدينة خيراً من هذه الساحة، إنها لا تترك أرض سدى! ثم بينما هم يتقاذفون الكرة، إذا بهم يخطئون فيتقاذفون واحدة من هذه الجماجم. . . أنسيت أيها البقيع إن كل مسلم يحس إنه يملك في هؤلاء الأبطال ملكاً، وإن هذا الرفات ليس من حقّك وحدك، ولكنه حق لكل مسلم ولد أو يولد إلى يوم القيامة. . . وإنك إن طمست هذه الأسماء، حتى يجهلها المسلمون، أسأت إلى كل المسلمين؟
أنسيت أن أضيافك عظماء البشر، أف تستحق العظمة هذا الإهمال الشائن، وهذا النسيان المخزي، أم ذنبهم إنهم لم يكونوا فرنجة ولا إنكليز؟! أف يكون البانتيون لأبنائه أوفى منك لأبنائك أيّها البقيع؟ إنه لم ينقص من مجدهم إنها لم تشيّد لهم القبور، ولم تنقش أسماؤهم على صفائح الحجر، وحسبهم إنهم شيّدوا مجداً وبنوا أمة وكتبوا تاريخاً، فإذا نسى التأريخ أبطاله ومنشئيه، فقدماً نسى التاريخ الأبطال! وهل ذكر التاريخ أولئك الجنود الذين سقوا