الجاحظ أمة في الأدب وحده، وعالم محقق لا يسبر له غور أو يدرك لاتساع فطنته مدى. وهو إلى جانب موسوعاته التي كشفت عن غزارة ذهنه ورحابة عقله، قد ترك لنا مجموعة رسائل يمكن أن نعدها في باب الموجزات بالقياس إلى تصانيفه التي يطول فيها استطراده وتتسع منادح تفكيره
ولكن إيجازه في هذه الرسائل غير مقصر بها ولا مخلّ؛ إذ تعالج كل منها موضوعاً قائماً بنفسه في إحاطة لا تترك وراءها فراغاً أو نقصاً، واستيعاب لا صغير ولا كبير إلا أحصاها. ومن هذه الرسائل رسالة عنوانها: في مناقب الترك وعامة جند الخلافة
وإنها لآية من آيات الجاحظ؛ تقفنا من تفكيره على صورة جميلة، وترسم لنا خطوطاً واضحة المعالم لبعض وجوه تصرفه في الكتابة والتصنيف.
وهو يبدو في هذه الرسالة عظيم الاحتفاء بشئون السياسة على عهده، قوَّي المساهمة، بقلمه وبذهنه، في خدمة قضية يراها جديرة بأن يعمل لها ويسعى في سبيلها.
وقد بعث الجاحظ بهذه الرسالة إلى الفتح بن خاقان صاحب المتوكل ونديمه المصطفى في حياته، والذي قاسمه مصرعه الرهيب فيما بعد على يد المنتصر ابنه وولي عهده. . .
على أن الرسالة لم تكتب في ذلك العهد، وإنما كتبت أيام المعتصم ثامن خلفاء بني العباس؛ ولم يتهيأ للجاحظ أن يبلغها إليه فبقيت حبيسة طيلة عهده، ثم مدة الواثق من بعده، حتى تهيأ له الظهور أخيراُ في أيام المتوكل. والجاحظ نفيه يشير إلى هذه الحقيقة كما سنرى ذلك فيما بعد. ولكن الذي يعنينا الآن هو التحقق من بواعث تحرير هذه الرسالة، ثم النظر في أسباب احتباسها طيلة هذه الفترة حتى ظهرت في عهد المتوكل. وما من ريب في أنه كان للعوامل السياسية أثر قوي في كل هذا فما الذي دفع الجاحظ أولاً إلى كتابة هذه الرسالة؟
لقد تولى المعتصم الخلافة بعد أخيه المأمون، وكان مثله ممن يقدر النبوغ ويحتفل بالمواهب حيث ظهرت، فانفسح مجال التفوق في دولته أمام العناصر غير العربية. على أن نزعة المأمون كانت علمية كما هو معروف؛ أما المعتصم فكان شجاعاُ باسلاً رب سيف ورمح، لا قلم ولا كتاب. كان (الحليفة الأمي) كما وصف نفسه في كثير من الصدق، ولكنه تفرد إلى