للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[وا حسرتا على عزيز!]

أشهد لقد أصابني ما يصيب الحي من فجائع الموت، فحزنت حزن المفجوع، وبكيت بكاء الموجوع؛ ولكن فجيعتين بعد فجيعتي في ولدي أشعرتاني لوعة من الحزن لم أجدها في فجيعة من قبل: فجيعة الأمس في علي طه، وفجيعة اليوم في عزيز فهمي!

لا أستطيع أن أصف لك هذا اللون من الحزن على وجه الدقة؛ لأنه

نادر الحدوث في القلب فهو غريب؛ ولأنه عميق الأثر في النفس فهو

غامض. أنه ذهول يتخلله وعي، وأسف تخالطه حسرة، وحرقة يغالبها

دمع، وذكرى يساورها قنوط، وسخط يكفكفه إيمان.

جاءني على غير انتظار ولا توقع أن زين الشباب عزيزا أدركه الموت الأسود وهو في طريقه إلى نصرة الحق وخدمة العدالة، فأخذني أول الأمر وجوم كوجوم المبهوت، فيه الدهش والشك والتبلد والحيرة. ثم تكرر النبأ الفاجع في صيغ شتى، فانجلى البهت رويدا رويدا، حتى تمثل لعيني الخطب الجلل على أبشع صوره وأفظع معانيه. تمثل لي مصاب نفسي في الخلق الرضي والطبع الحيي والفؤاد الذكي والإخاء المواسي والوفاء المضحي، فجزعت جزع الإنسان يرى قوة من الخلال الكريمة تفنى ولا تُخلف. وتمثل لي مصاب وطني في المحامي الوثيق الحجة، والخطيب الحافل الذهن، والنائب الشجاع القلب، والشاعر السمح القريحة، فجزعت جزع المواطن يرى ثروة من المواهب العظيمة تفقد ولا تعوض.

جزعت للإنسانية لأني أكاد لا أعرف من هذا الناس إلا آحادا من طراز عزيز قد برهنوا بالفعل على أن الإنسان الذي يسفل فيكون شرا من شيطان، يستطيع أن يعلو فيكون خيرا من مَلك. وجزعت للوطنية لأن هذا البلد البائس الذي يكابد سوء الأخلاق في داخله، ويجاهد شر الدول في خارجه، يفتقر في محنته إلى أمثال عزيز ليرفعوا قيمة الفضيلة في التعامل، ويعظموا قدر الكفاية في العمل.

عرفت عزيز فهمس في بغداد سنة ١٩٣٢، وكان قد قدمها في رحلة جامعية. لم أعرف بالطبع جميع أعضاء الرحلة، وإنما عرفت عزيزا وحده، لأنه بارز في شخصيته، متميز في خلقه. لم يكد يعرفني حتى ارتاح إلى بأنسه، وأخذ يسمعني من شعره، ويحدثني عن

<<  <  ج:
ص:  >  >>