للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[ذكريات مدرسية]

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

سأقتصر في هذا الفصل على طائفة من الذكريات تخيرتها من عهدين - عهد كنت فيه تلميذاً وعهد تال كنت فيه مدرساً وسأكتفي بالمعالم الكبرى والخطوط الرئيسية التي تغنى عن التفاصيل، ولست أرمي إلى غاية من هذا التصوير سوى ما يمكن أن يستفاد من مقابلة عهد بعهد ومواجهة ماض بحاضر. فمثلاً يمكن بسهولة أن تتصوروا حال التعليم الابتدائي إذا قلت إن تلميذاً كان معنا في المدرسة نال الشهادة الابتدائية فعين في السنة التالية مدرساً لنا في السنة الرابعة التي تعد لنيل الشهادة الابتدائية. وأبلغ من هذا في الدلالة أنه كان يدرس لنا ما كان يسمى (الأشياء) وهي عبارة عن معارف عامة وكان تدريسها يومئذ باللغة الإنجليزية. وأرسم خطاً آخر تتم به الصورة فأقول إن ناظرنا كان يقول عن نفسه إنه جاهل جاهل ولكنه إداري إداري، وكان حديث عهد برتبة البيكوية فكانت عبارة (يا سعادة البك) تغفر كل ذنب وتمحو كل خطيئة. وليس أقدر من الصغار على التفطن إلى مواطن الضعف في الكبار، وليس أعرف بالمعلم من تلاميذه. وحسبه كشفاً لستره أن مئات من العيون تفحصه كلما بدا لها، وأن مئات من الألسنة الثرثارة لا تنفك تلغط بما أدركته رؤوس أصحابها الصغيرة. وأذكر أني كنت ألاعب تلاميذاً فشتمني فضربته بسلسلة مفاتيح فقطعت جلد وجهه، فذهب يعدو إلى الناظر والدم يسيل من جرحه وقال له وهو يبكي: (يا أفندي ابن عبد القادر ضربني) فأسرها الناظر وبعث يطلبني وسألني لماذا فعلت ذلك؟ فقلت: (يا سعادة البك إنه شتم أبي) وأنكر المضروب وقال: (لا والله يا أفندي) وتكرر من المضروب نعت الناظر بالأفندي وتلقيبي له بسعادة البك، فضاق صدر الناظر جداً وأهوى على المضروب بخيزرانته وهو يقول: (أفندي في عينك قليل الحيا) ولا أحتاج أن أقول إني نجوت مما كنت أستحقه من العقاب وإن الفضل في نجاتي إنما كان لكوني لم أنس (يا سعادة البك) وأن خصمي نسيها

وأوفدني إليه التلاميذ يوماً لأرجو منه أن يسمح لنا بزيارة حديقة الحيوانات مجاناً فدخلت عليه وسلمت ومهدت بيا سعادة البك ورفعت إليه رجاء الفرقة فدق صدره بكفه وقال: (حوانات حوانات إيه يا ابني. . . أسد فك السلاسل نهش عيل منكم نبقى نقول يا مين؟)

<<  <  ج:
ص:  >  >>