إن الدارس للحركة العقلية بمصر والشام في عصر الحروب الصليبية، يبهرة كثرة الإنتاج في فروع الثقافة المختلفة، ويرى أن البلاد لم تعش على ما وفد إليها من كتب ألفت في غير أرضها، بل ساهمت مساهمة كبيرة في النشاط العلمي والأدبي، ولا نزال إلى اليوم نعيش على بعض آثار ذلك العصر، ونعتز بما له من ثمار.
وقد تنوع الإنتاج يومئذ تنوعاً يدل على حركة علمية ناشطة، وحمل لواء هذه الحركة أعلام نابغون؛ فمن فقهاء على المذاهب الأربعة إلى نحاة، ولغويين، وعروضيين، ومحدثين، ومفسرين، ومقرئين، ومتكلمين، ورجال أدب، وبلاغة، ومؤرخين وجغرافيين، وعلماء بعلوم الأوائل من منطق وفلسفة وسياسة، وعلوم رياضية، ولم يخل العصر من فلكيين ومنجمين.
وساعد على ازدهار حركة الإنتاج ما كان يستطيع أن يصل إليه العلماء في الدولة من أسمى المناصب، ومالهم عند الشعوب من إجلال وتقدير، وما يظفرون به عند الخلفاء والسلاطين من تشجيع وتقريب.
وكان أحكام ذلك العصر مثقفين ثقافة ممتازة، ويحيطون أنفسهم بطبقة مصطفاة من المثقفين، ويغدقون عليهم، وللفاطميين من ذلك نصيب كبير: يروي أن المهذب بن النقاش لما وصل إلى الشام من بغداد، وكان فاضلاً في صناعة الطب، وأقام بدمشق مدة، ولم يحصل له ما يقوم بكفايته، وسمع بالديار المصرية، وأنعام الخلفاء فيها وكرمهم وإحسانهم إلى من يقصدهم، ولا سيما أرباب العلم والفضل، فتاقت نفسه إلى السفر، وتوجهت أمانيه إلى مصر، فوجد فيها ما كان يرجوه، وشهر من وزرائهم بحب العلم وتقريب العلماء وتشجيعهم الوزير الأفضل ابن بدر الجمالي.
أما نور الدين محمود فقد كان يجلب العلماء ويحتفي بكبارهم ويسكنهم الشام، ويبني لهم المدارس، ويغدق عليهم المرتبات، ويكاتبهم بخط يده. وافتدى به صلاح الدين في تشجيع العلماء وتقريبهم، حتى أن عبد اللطيف البغدادي عندما دخل دمشق وجد فيها من أعيان