قال أحمد بن مسكين: ودار السبتُ الثالث وجلستُ مجلسي للناس وقد انتظمت حلفتهم؛ فقام رجل من عُرض المجلس فقال: أن الحسن بن شجاع البلخي تلميذ الإمام أحمد ابن حنبل كان منذ قريب يحدثنا بأحاديث عن الشيطان، حفظنا منها قوله صلى الله عليه وسلم: أن المؤمن ينضي شيطانه كما ينضي أحدُكم بعيره في سفره. وكان الحسن يقول في تأويله: أن شيطان الكافر دَهينٌ سمينٌ كاسٍ، وشيطان المؤمن مهزول أشعثُ أغبرُ عار. فهل يأكل الشيطان ويدّهن ويلبس ليكون له أن يجوع مع المؤمن ويعرى ويتشعَّث ويغبر؟
قال أين مسكين: فقلت في نفسي: لا حول ولا قوة إلا بالله! ما أرى السائل إلا شيطان هذا السائل؛ فإن إبليس إذا أراد أن يسخر من العالم ويُسمعه طنزَه وتهكمه حرَّك من يسأله عنه ما هو وكيف هو؛ كأنما يقول له تنبَّه ويحك على معناي فأنت تتكلم وأنا أعمل، وأنت صورة من الرد عليَّ، ولكني حقيقة من الرد عليك، وأنت في محاربتك لي بالوعظ إلا كالذي يريد أن يضرب عنق عدوه بمائة اسم وضعت للسيف. .
قال: وكنت قد سمعت خبراً عجيباً عن أبي عامر قبيصة ابن عقبة الكوفي المحدِّث الحافظ الثقة أحد شيوخ أحمد ابن حنبل؛ وهو الرجل الصالح العابد الذي كان يقال له (راهب الكوفة) من زهده وعبادته واحتباس نفسه في داخله كأنما جسده جدار بين نفسه وبين الدنيا، فقلت والله لأغيظن الشيطان بهذا الخبر، فان أسماء الزهاد والعباد والصالحين هي في تاريخ الشياطين كأسماء المواقع التي تنهزم فيها الجيوش، وما الرجل العابد إلا صاحب الغمرات مع الشيطان، وكأنه يحتمل المكاره عن أمة كاملة بل عن البشرية كلها حيث كانت من الأرض؛ فالناس يحسبونه قد تخلى من الدنيا ويظنون الترك أيسر شيء، وما علموا أن الزهد لا يستقيم للزاهد حتى يجعل جسمه كأنه في نظام آخر غير نظام أعضائه ولا أشق من ذلك على النفس؛ ومعجزة الزاهد أنه مكلف أن يخرج للناس أقوى القوة من المعاني التي هي عند الناس أضعف الضعف؛ ولو أن ملكاً عظيماً تعب في جمع الدنيا وفتح الممالك حتى حيزَتْ له جوانب الأرض لكان عمله هذا هو الوجه الآخر لتعب الزاهد في مجاهدة هذه الدنيا وتركها