قال أحمد بن مسكين: وقصصتُ عليهم القصة فقلت: كان أبو عامر قبيصة بن عُقبة كثير الفكر في الشيطان يود لو رآه وناقله الكلامَ، وكان يتدبر الأحاديث التي صح ورودُها فيه ويفسر معنى الشيطان بأنه الروحُ الحيُّ للخطأ على الأرض؛ والخطأ يكون صواباً محولاً عن طريقته وجهته، ولهذا كان إبليس في الأصل ملكاً من الملائكة وتحوَّل عن طبيعته حين خلق آدم عليه السلام، أي وجد في الكون روحُ الخطأ حين وجد فيه الروح الذي سيخطئ. فلما هبط آدم من الجنة وحرمها هو وزوجه وذريته كان إبليس لعنه الله هو معنى بقاء هذا الحرمان واستمراره على الدهر، فكأن هذه الآدمية أُخرجت من الجنة وأخرجت معها قوة لا تزال تصدها عنها ليضطربا في الكفاح ملياً من زمن هو عمر كل إنسان، وهذا هو العدل الإلهي، لم يعرف آدم حق الجنة فعوقب ألا يأخذها إلا بحقها، وأن يقاتل في سبيل الخير قوة الشر
وبات أبو عامر ذات ليلة يفكر في هذا ونحوه بعد أن فرغ من صلاته وقراءته، ثم هوَّم فكان بين اليقظة والنوم، وذلك حين تكون العينُ نائمةً والعقل لا يزال منتَبهاً، فكأن العينَ متراجعةٌ تبصر من تحت أجفانها بصراً يشاركها فيه العقل. فرأى شيخُنا أبو عامر صورة إبليس جاءه في زيّ رجل زاهد حسن السَّمْت طيب الريح نظيف الهيئة، وكاد يشَبَّه عليه لولا أنه قد عرفه من عينيه فإن عيني الكاذب تصدقان عنه، وقد علم الله أن الكاذب آدميِّ قَفَر فجعل عينيه كالعلامات لمن خاض الفلاة
وظهر الشيطان زاهداً عابداً تقياً كأنه دين صحيح خلق بَشَراً فصرخ فيه أبو عامر: عليك لعنة الله! أمعصية في ثوب الطاعة؟
قال إبليس: يا أبا عامر! لو لم تقل المعصية أنها طاعة لم يقارفها أحد. وهل خلقت الشهوات في نفس الإنسان وغريزته إلا لتقريب هذه المعاصي من النفس، وجعل كل منها طاعة لشيء ما؛ فتقع المعصية بأنها طاعة لا بأنها معصية. أولا ترى يا أبا عمر أن الحيلة محكمة في الداخل من الجسم أكثر مما هي محكمة في الخارج عنه، وأنه لولا أن هذا الباطن بهذا المعنى وهذا العمل لما كان لظاهر الوجود كله في الإنسان معنى ولا عمل؟
قال الشيخ: عليك لعنة الله! فما أرى الموت قد خلق إلا رداً عليك أنت ليتبين الناسُ انك الممتلئ الممتلئ ولكنك الفارغ الفارغ؛ بل كل شهواتك سخرية بك وردّ عليك، فلا طعم للذة