للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

من لذاتك إلا وهي تموت، وإنما تمام وجودها ساعة تنقضي؛ ومتى قالت اللذة قد انتهيت، فقد وصفت نفسها أبلغ الوصف

قال إبليس: يا أبا عامر ولكن اللذة لا تموت حتى تلد ما يبقيها حية، فهي تلد الحنينَ إليها وهو لا يسكن حتى يعود لذة تنقضي وتلد

قال الشيخ: معاني التراب، معاني التراب؛ كل نبتة فيها بذرتها. ولكن عليك لعنة الله لماذا جئتني في هذه الصورة؟

قال إبليس: لأني لا ألبس إلا محبةَ القلب الآدمي، ولولا ذلك لطردتني القلوب كلها وبطل عملي فيها؛ وهل عملي إلا التلبيس والتزوير؟ أفتدري يا أبا عامر إني لا أعتري الحيوان قط؟ قال الشيخ: لأن الحيوان لا ينظر إلى الشيء إلا نظرة واحدة هي نظره وفهمه معاً، فلا محل للتزوير مع هذه النظرة الواحدة؛ وصدق الله العظيم: (هل أُنَبِّئكم على من تَنَزَّل الشياطين؟ تَنَزَّلُ على كل أفّاكٍ أثيم) فأنت أيها الشيطان التزوير، والتزوير موضعه الكذب. فمن لم يكذب في الفكر ولا في النظر ولا في الفهم ولا في الرجاء فليس لك عنده عمل

قال إبليس: يا أبا عامر! وهل ترى رحمك الله أعجب وأغرب وأدعى إلى الهزء والسخرية من أن أعظم العقلاء الزهاد والعبّاد هو في جملة معانيه حيوان ليس له إلا نظرة واحدة في كل شيء؟

قال الشيخ: عليك وعليك؛ إن الحيوان شيء واحد فهو طبيعة مسخَّرة بنظامها، ولكن الإنسان أشياء متناقضة بطبيعتها، فألوهيته أن يُقرّ النظام بين هذه المتناقضات كأنما امتُحن فأعطى من جسمه كوناً فيه عناصر الاضطراب وحوله عناصر الاضطراب ثم قيل له دبِّره

فضحك إبليس. قال الشيخ: مم ضحكت لعنك الله؟

قال: ضحكت ممن أنك أعلمتني حقيقة الإبليسية، فالزهاد هم الصالحون لأن يكونوا أعظم الأبالسة

قال الشيخ: عليك لعنة الله فما هي تلك الحقيقة التي زعمت؟

قال إبليس: والله يا أبا عامر ما غلا إنسان في زعم التقوى والفضيلة إلا كانت هذه هي الإبليسية؛ وسأعلمك يا أبا عامر حقيقة الزهد والعبادة. فلا تقل أنها ألوهية تقر النظام بين متناقضات الإنسان ومتناقضات الطبيعة

<<  <  ج:
ص:  >  >>