جلس إسماعيل على المعقد الخشبي بجانب غرفته على السطح، يغني في حنين الواجد ولهفة المشتقات بعض أغنيات بلاده، ويتابع بعينه الشمس الغاربة منحدرة انحدارها اليومي، كأنها جمرة كبيرة تطفأ في النيل.
كان يعيش وحده في هذه الغرفة من منزل كبير في حي (بولاق) يشرف من بعد على النيل فكانت سلوته وانسه أن يجلس ببابها عصر كل يوم، من لدن عودته من المدرسة حتى يعم الظلام؛ ثم ينهض فيسرج مصباحه ويكب على مصوراته ودفاتره
وقد انحدر منذ عام واحد من بلدة في الصعيد الأدنى عقب حصوله على شهادة (الكفاءة) ليطلب العلم بمدرسة الفنون
كم كان مفتوناً بالقاهرة قبل أن يهبط إليها، ولوعاً بها أشد الولع. ولعله لم يمعن في الجد والدأب للحصول على الشهادة، إلا لأنه كان موعوداً أن يرسل إلى القاهرة إن جاز الامتحان!
فلما هبط إليها إذا هي تتضاءل وتتضاءل على الأيام، حتى لم تعد إلا هذا الحي العتيق الذي يسكنه، وهذه الطريق الملتوية التي يسلكها كل يوم بين مدرسة والبيت، وهذا السطح الذي يشرف منه على أطلال الحلم السعيد - أطلال القاهرة التي عرفها في الخيال، واستمتع فيها بلذة المنى ووهم الحب ودنيا الشباب!
وكم كان يتمنى أن يتيح له الحظ ليلةً سعيدة من تلك الليالي العابثة التي عاشها في القاهرة أول ما هبط إليها! ولكن. . . ولكن من أين له المال؟
انه ما يزال يذكر في لهفة وشوق الليالي السعيدة؛ وما يزال يذكر أيضاً في ألم وحسرة انه احتمل مما انفق في تلك الليلات ما لم تكن به طاقة، من ألم الجوع وذل الحرمان، وأبى أن يكتب لأبيه يومئذ انه فارغ اليد مما أسرف على نفسه
وقنع من أحلامه بهذه السكنى الهادئة، وبأن يعيش من الجنة في ظل حائطها الفينان. وعرف فيه بنات الدار شاباً جم الحياء، عفيف اللسان والنظر؛ فألفن الصعود إلى السطح