للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[إنصاف المترجم]

للدكتور محمد عوض محمد

أتى على المترجم حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً. وقد طال هذا الحين وامتد، حتى كدنا نظن أن ليس لليله المدلهم من آخر. وإن من الناس لمن يظن أن المترجم ذو مكان تافه يسير، وأن سيبقى مكانه مدى الدهر تافهاً يسيراً.

ولقد طالما أصغى المترجم إلى هذه الإشارات والعبارات، التي تنزله من عالم الأدب والكتابة أصغر المنازل. فيلقاها حيناً بالامتعاض، وحيناً بالاستسلام؛ وقد بات في حيرة من أمر نفسه، فجعل يدعو نفسه أحياناً المترجم، وأحياناً المعرب، لعل في هذه ما يحسن من شأنه ومن حاله؛ ثم يتواضع أحياناً فيكتفي بأن يقول: نقله عن الفرنسية. . . فلان، ويوصى الطابعين بأن يكتبوا اسمه بحروف صغيرة ضئيلة. . . وليس هذا كله بمغن عنه شيئاً، فليس الزهو بنافعه، ولا التواضع بمانعه.

وبالرغم من أن حاله باعثة حقاً على الرثاء، مثيرة حقاً للدموع والبكاء،؛ فأنا قلما نجد له بين الورى منصفاً. كأنما أجمع الناس على ظلمه واضطهاده. وما كفاه السهر الطويل المضني، والانكباب على البحث والتنقيب عن الألفاظ والعبارات، وإجهاده الفكر في فهم ما لا يفهم. وإنقاذ ما لا يمكن إنقاذه؛ حتى إذا ما أتيح له بعد لأي وعناء، وأن يخرج مترجمه إلى عالم الكتب، جعل يتقدم به إلى القراء، في حياء وتردد؛ كأنما ارتكب وزراً يريد أن يعتذر منه؛ ويسبق الناقدين إلى النقد فيقول لكل من يراه - بل ولكثير ممن لا يراه - إن الترجمة تشويه على كل حال!. . وهو يريد بهذا أن يستل سخيمة الناقدين، وأن ينتزع حمة العقرب أو على الأقل يهدئ من ثورتها. وشأنه في ذلك كشأن الطبيب الذي يطعمنا للجدري، فيعطينا المرض في شكل صغير لكي يدرأ عنا الخطر الكبير. .

لكن هذه الحيلة لا تجديه نفعاً؛ وهذا الاعتراف ليس بمنجيه من العذاب. فلا يلبث الناقدون أن يتناولوا المترجم بالتأنيب والتجريح، وترجمته بالتنكيل والتعذيب؛ ويمطرونه النقد المرير أينما ذهب، وحيثما نزل؛ في مجالس الأدب وفي غير مجالس الأدب؛ وفي الصحف السيارة وغير السيارة؛ ومن النقد ما يلقى إليه مشافهة، ومنه ما يلقى إليه كتابة.

هذا يتهمه بعدم الأمانة لأنه تصرف في اللفظ من أجل الحرص على المعنى: فالويل له

<<  <  ج:
ص:  >  >>