للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كيف يتصرف في اللفظ وهو أثمن شيء في الوجود! والآخر ينعته بالجمود وبالتمسك بالحرف وبالحرص على اللفظ، حتى جاءت ترجمته في حاجة إلى ترجمة: لا هي عربية فتفهم، ولا أعجمية فتتفهم. ويقول الثالث: أجل وإن المترجم لذو شخصية ضعيفة ضئيلة، حتى لقد غمرته شخصية المؤلف وطغت عليه ومحته محواً تاماً. فقارئ الترجمة لا يجد فيها سوى روح المؤلف، أما المترجم فلا روح له! ويقول رابعهم مداعباً: إن هذه الترجمة والأصل كالزنجية الشوهاء وخيالها في الزفت! ويقول الخامس: ما كان أغنى قراء العربية عن ترجمة مثل هذا الكتاب، فياله من مجهود ضائع! ويقول السادس وهو يتكلف الظرف: إن هذه الترجمة لكتاب (هملت) من الإبداع بحيث يجب أن تترجم مرة أخرى إلى الإنكليزية! ليرى شكسبير كيف يجب أن يكتب (هملت)!

ثم من بعد هذا كله فما هو في نظر الجميع سوى مترجم! رجل أعوزته المقدرة على الابتكار، فانصرف إلى النقل! فهل يكون لمثل هذا في عالم الأدب أو العلم مكان؟ وأين هو من زيد وعمرو وبكر الذين ألفوا وصنفوا مجلدات فتحت في العلم أبواباً وطرقاً وشوارع؟ حتى إن منهم لمن يبيع لتلاميذه الملزمة الواحدة بعدة دراهم!

ينصت المترجم المسكين لكل هذا وهو مطرق الرأس مغمض الطرف، وقد أخذ الندم يأكل قلبه وكبده ورئتيه. وهو على هذا يعلم أنه ليس شراً من أولئك المؤلفين، وأنه لو شاء أن يسلك السبيل التي سار فيها زيد أو بكر لما كان من الصعب عليه أن يجمع الفصول من بعض الأسفار؛ ثم يسئ وضعها وترتيبها، ويعرضها على أنها من مؤلفاته القيمة، ومن بنات أفكاره ودلائل إعجازه. ولكنه آثر أن يسلك سبيلاً غير ذي عوج، وأن يعمل في وضح النهار. في زمان ساد فيه الالتواء والظلماء.

لا شك أن المترجم المسكين مهيض الجناح، مهضوم الحق، وقد بلغ من هوان أمره على بعض الناشرين أنهم ربما نشروا الكتاب، ولم يعنوا حتى بذكر اسم المترجم!

ومع ذلك فلقد يلقى المترجم من حين إلى حين منصفاً يكون بمثابة جزيرة من الأمل وسط هذا البحر الفسيح من القنوط! ومن أحسن ما يذكر في إنصاف المترجم ما قاله الأستاذ طه حسين في مقدمة الترجمة العربية لكتاب هرمن ودروتيه. وقد جاء في كلامه العبارة الآتية:

(إن الذين يترجمون آيات الأدب والفن والفلسفة ينسون أنفسهم، ويمحون شخصياتهم،

<<  <  ج:
ص:  >  >>