للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[أغرب ما رأيت في حياتي]

للدكتور زكي مبارك

أنا متهمٌ بالعقل ومتهمٌ بالجنون. فمن وصفني بالعقل فهو متلطف، ومن وصفني بالجنون فهو مسرف. لأني في حقيقة أمري إنسان يعيش بثورة العواطف فوق ما يعيش بقوة العقل، وهي حالة تجعل أمري وسطاً بين العقل والجنون.

والتوفيق الذي ظفرت به في حياتي العلمية مدينٌ لحياتي الوجدانية؛ فقوة الوجدان هي التي حملتني على أن أستقتل في الدراسات الأدبية والفلسفية. وقد يأتي يوم أعترف فيه بالأسباب الوجدانية التي جعلت عقلي يتفوق إلى أبعد حدود التفوق في مثل كتاب النثر الفني أو كتاب التصوف الإسلامي.

وهذه الغرابة في تكوين عقلي وقلبي هي التي تحملني على الجرأة في تدوين هذا الحديث، وهو حديث كنت أفتضح به أشنع افتضاح لو نشرتُه قبل سنتين أو ثلاث، يوم كان لي خصوم يسرهم أن تحاط حياتي بالأقاويل والأراجيف.

أما اليوم وقد قل خصومي بحيث لا يزيدون عن ألف أو ألفين، فأنا أنشر هذا الحديث بلا تهيب ولا تخوف، وليقل من شاء ما شاء.

كنت حين انتسبت إلى جامعة باريس أقضي أربعة أشهر من كل سنة في مدينة النور، ثم أعود إلى وطني لأجمع من الصحافة والتدريس ما أستطيع به الرجوع إلى باريس من جديد. ودام ذلك بضع سنين، ثم عرفت إني لن أصل إلى غرضي إلا إذا قررت بطريقة حاسمة ألا أفارق باريس إلا في أحد حالين: النصر أو الموت.

وكانت الإقامة الدائمة في باريس تبدو من المستحيلات، لأن أبي رحمه الله لم يكن يقدر على إمدادي بكل ما أحتاج إليه. وكان ما ورثته عن أمي طيب الله ثراها لا يزيد عن بضعة قراريط. وكانت زوجتي أفقر مني؛ ولم يكن لي في الحكومة المصرية عمٌّ ولا خال.

وفي تلك الظلمات استطعت أن أتفق مع الأستاذ عبد القادر حمزة على مراسلة البلاغ من باريس بمرتب قدره خمسة عشر جنيهاً، فتوكلت على الله وقررت الاعتكاف بالقبلة القديمة في السوربون.

ولكن مراسلة البلاغ من باريس لم تكن عملاً ينفع إلا في حال واحد: هو أن يشعر صاحب

<<  <  ج:
ص:  >  >>