فينتحلها أو يسلخها أو يمسخها؛ ثم لا ترى الناقد المعتز بصناعته الوفي لها يُهمل الكتب الخارجية من المطابع لأن أصحابها من المحدثين، أو لأنهم غير متعصبين له، أو لأنهم أتوا بشيء لم يتوقعه.
ومن خصائص هذه الثقافة أنها تنشئ مُثلاً عليا، فالشاعر - مثلاً - يُكرم قريحته أن تفيض بما قاله غيره سواء من باب السطو أو من باب التقليد؛ ثم إنه - إلا في النادر النادر - يعف عن النظم لرغبة أو رهبة؛ ثم إنه يحاول ما استطاع أن يميز شعره من شعر أصحابه، ولا يبلغ ذلك إلا إذا استخرج من وليجة نفسه كنوزها فلا تهويل ولا جلجلة!
تلك أمثال من صدق الثقافة هنالك. وإنما صدقها يرجع إلى وحدتها واستقرارها وسهر أصحاب الأمر عليها. ومن الأمثلة على سهر القوم عليها أن الجوائز والمكافآت الموقوفة عليها إنما تجري على طريقة مرضية. وقصة ذلك أنها مبذولة للمنشئين الحق ولا سيما المحدثين منهم على أن يؤلفوا كتباً لها شأنها لا لموظفين بينهم وبين الأدب المحض شقاق على الغالب، ولا لأصدقاء وأعوان، وأنها بين أيدي حكام لهم - على الأقل! - دراية بما يفصلون فيه.
وإليك مثلاً آخر: إن شؤون الثقافة العامة لا تُقضى بين جدران وزارة المعارف وفي بهو الجامعة فقط (كأنما الفطنة حصرت في عقول فئة من الموظفين، والعلم جُمع في صدور نفر من الأساتذة). إن حق الأدباء والمنشئين وأصحاب المجلات الرفيعة في معالجة شؤون الثقافة العامة ليس دون حق أولئك الأساتذة والموظفين.
بقي أن القوم يضعون صاحب الشأن في موضعه، ويستثمرون ما يجب استثماره، ثم ينبذون من يتوسل بغير الكفاية ويستهزئون بورم الألقاب وطنين الأسماء.
تلك صبغة الثقافة هنالك. وليس معنى هذا أنها صافية كل الصفاء، فالخلق هنالك بشر. إلا أن مبادئها سليمة ومجدية.