ذلك هتاف الأمة الحيرى، يتجلجل في صدرها المكظوم كلما بهرتها الشدائد، وأجهدتها المفاوز وفدحتها الضحايا، ووقف بها اللغوب، ودارت ببصرها في معامي الفضاء فلا تتبين نسما لطريق ولا تتعرف وجهاً لغاية
[يا هادي الطريق جرت!!]
ذلك صراخ القافلة المكروبة، تخبط منذ طويل في مجاهل الأرض وخوادع السبل، وإدلاؤها الغواة يلتهمون زادها مع الوحش، ويتقسمون مالها مع المغير ويغتنمون ضلالها مع الحوادث حتى قطعوها عن ركب الإنسانية وتركوها في مطاوي التيه تنفق جهدها على غير طائل وتنشد قصدها من غير أمل
[يا هادي الطريق جرت!!]
ومن يستطيع اليوم أن يعَّرف هذا الهادي بالنداء، أو يخصصه بالوصف، أو يأخذه بالتبعة؟ لقد تعدد الهداة في هذه القافلة! واختلفت الشياطين بين هؤلاء الهداة فتنازعوا الزعامة وتجاذبوا الأزمة فأخرجنا هذا من مذهب إلى مذهب، وصرفنا ذاك من مطلب إلى مطلب، حتى إذا انكشفت عن عيوننا أغطية الغفلة وجدنا أنفسنا بعد الجهد الجاهد ندور حول الموقف الذي كنا فيه أو نرجع إلى الموضع الذي فصلنا عنه!
على هذه القيادة المتضاربة الأفينة رجعنا القهقري زهاء ثمانين سنة: رجعنا إلى العهد الذي كنا نهدهد الدستور فيه على هوى السلطان المطلق، وندرب القانون على مصارعة العرف الغالب، ونعلم الشعب الأجير معنى الأمة المالكة! وليتنا عدنا إلى ذلك العهد بأخلاقه ورجولته! فقد كنا على قلتنا أعزة، وعلى فاقتنا أعفه وعلى جهالتنا أعلم بالخير وأفهم لمعنى المجتمع. كنا نتواصى على الصبر، ونتعاون على البر، ونتهادى صنائع المعروف ونحفظ وحدة الأسرة بالحب، وسلطان الدولة بالطاعة، وحقوق الله بالورع، فما كان منا من يخون الأمانة، ويسرق الأمة، ويتكئ على النقيصة ويتحمل على الخبث ويتَّجر بالدين، ويتخذ عدو وطنه ولياً، ويعتقد خطة غاصبه شريعة!
ولكننا وا أسفاه بعد هبَّة مصطفى، ونهضة سعد، وجهاد خمسة عشر عاماً، تمكن فيها السلطان واستبحر العمران، وازدهر العلم، وتولد النبوغ، وتوحد الشعب، وتكون الرأي، نصاب بهذه النكسة الشديدة، فنعود ناقضين ما ابرم خاسرين ما غنم!!